في الوقت الذي كانت فيه موسكو تحتفل بذكرى عيد النصر على النازية، وهو التاريخ الأكثر رمزية في وجدان الروس، اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يربط هذه المناسبة بهجوم سياسي ناعم وموجه، مستخدمًا اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كمنبر لتثبيت سردية جديدة: روسيا ليست فقط ضحية لهجوم أوكراني، بل هي أيضًا هدف لحرب نفسية تمارسها قوى “تمجد النازية”، في إشارة واضحة إلى كييف وداعميها الغربيين.
التوقيت والمضمون: موسكو تتحدث من موقع القوة
في تصريحات نقلها مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، قال إن بوتين شرح لترامب كيف حاول الأوكرانيون ترهيب قادة العالم قبيل حلول عيد النصر، من خلال التهديدات الأمنية والهجمات بالطائرات بدون طيار على موسكو، في محاولة لمنع الحضور الأجنبي. الرسالة هنا واضحة: روسيا قوية بما يكفي لإفشال المخطط، وآمنة رغم الاستهداف، وقادرة على إظهار ضبط النفس بوقف إطلاق النار بينما تُضرب في عمق أراضيها.
لعبة الرمزية والواقعية
ما أراد بوتين تأكيده لا يقتصر فقط على الردع العسكري، بل يتجاوز ذلك إلى ترسيخ صورة روسيا كدولة محاصرة لكنها منتصرة أخلاقيًا وتاريخيًا، حيث ربط بين مشاهد الطائرات المسيرة التي هاجمت موسكو وبين إرث الحرب العالمية الثانية، وكأن أوكرانيا المعاصرة تلبس عباءة النازيين الجدد. هذه المقارنة، وإن بدت شديدة التسييس، فإنها فعّالة على المستوى الداخلي الروسي وعلى بعض الساحات الدولية التي تراقب بحذر تقلبات المشهد في أوروبا الشرقية.
زيلينسكي في الزاوية: حرب بلا أصدقاء دائمين
الهجوم الأوكراني المكثف، الذي استهدف موسكو في ليلة السابع من مايو، بـ أكثر من 500 طائرة مسيرة وصواريخ بعيدة المدى، كما ورد في البيان الروسي، لم يُقرأ على أنه عمل بطولي، بل جاء – وفق السرد الروسي – كضربة غادرة في وقت كانت فيه موسكو قد أعلنت وقف إطلاق النار لثلاثة أيام. هذه المفارقة تُستثمر روسيًا لإظهار “خيانة كييف” للقيم الإنسانية وتجاوزها لكل حدود المعقول حتى في أكثر اللحظات رمزية.
على الجبهة الأوكرانية، يزداد الضغط على الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ليس فقط بسبب الاستنزاف العسكري وغياب التقدم الميداني الحاسم، ولكن أيضًا بسبب الفتور المتزايد في الدعم الغربي، خاصة مع صعود أصوات سياسية في واشنطن تدعو لإعادة النظر في “الشيك المفتوح” لأوكرانيا.
ترامب وبوصلة المصالح: التركيز على الصين لا على أوكرانيا
رغم أن ترامب لم يعد رئيسًا، إلا أن الاتصال الروسي به يعكس شيئًا أبعد من مجاملة بروتوكولية. إنه رهان روسي على عودة عقلية الصفقات إلى البيت الأبيض. ترامب، المعروف بنزعته “الواقعية” ورفضه للحروب الطويلة غير المجدية، عبّر مرارًا عن رغبته في إنهاء الحرب الأوكرانية عبر اتفاق سريع، ليس حبًا بروسيا ولا دعماً لأوكرانيا، بل لأن استمرار الحرب يرفع أسعار الطاقة ويزيد من أرباح الصين التي تشتري النفط الروسي بأسعار مخفضة، بينما تعزز نفوذها الاقتصادي والعسكري في ظل انشغال الغرب.
بالتالي، فإن بوتين يعرف جيدًا أن ترامب يرى في إنهاء الحرب وسيلة مزدوجة: ضرب الاقتصاد الصيني وتخفيض العبء المالي عن الولايات المتحدة. لذا، فإن الحديث عن الترهيب الأوكراني، وخطر النازية الجديدة، لم يكن موجهاً فقط لتبرير المواقف الروسية، بل لزرع أرضية خطابية قد يتبناها ترامب في حال عودته إلى السلطة.
تحليل استراتيجي: روسيا تبني سردية نصر طويل الأمد
من خلال هذا الاتصال، وما تسرب منه، يمكن رصد ثلاثة أهداف روسية واضحة:
-
إعادة صياغة الرواية العالمية: بوتين يريد القول إن روسيا ليست دولة معتدية بل مستهدفة، تحارب قوى نازية بالوكالة.
-
عزل أوكرانيا نفسيًا ودبلوماسيًا: كل هجوم أوكراني يُستخدم لإثبات “عدم أخلاقيتها”، في مقابل صورة روسيا “الحازمة والمتزنة”.
-
تغذية الخطاب المعادي للحرب في أمريكا: وخاصة لدى ترامب وأنصاره، لتقويض الدعم المستقبلي لأوكرانيا.
الكفة تميل نحو من يتقن اللعب السياسي
لم تعد الحرب في أوكرانيا مجرد معركة ميدانية، بل تحولت إلى صراع على شرعية السرد السياسي والأخلاقي. روسيا تراهن على الزمن والشتات الغربي، وزيلينسكي يواجه تآكل الدعم وصعود اليمين الأمريكي غير المتحمس لاستمرار المعركة. أما ترامب، فيبدو أنه مستعد لإنهاء الحرب ليس انتصارًا لأي طرف، بل كوسيلة لعرقلة الصعود الصيني واستعادة التوازن الدولي.
وقد لا يكون بعيدًا اليوم الذي تُستبدل فيه الرايات الأوكرانية على المنصات الغربية برايات جديدة تمثل مصلحة الغرب أولًا… لا أوكرانيا.