في مشهد لم تعتد عليه غزة من قبل، بات الحصول على رغيف الخبز مهمة يومية شاقة، وأحيانًا مستحيلة. في أزقة القطاع المحاصر، تتحول الطوابير أمام المخابز النادرة التي لا تزال تعمل إلى مشاهد تكرّس أزمة إنسانية خانقة، حيث أصبح الخبز سلعة نادرة بل وفاخرة على موائد آلاف العائلات التي تعاني من الحصار والنزوح.
منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فرضت السلطات الإسرائيلية حصارًا خانقًا على قطاع غزة، شمل إغلاق المعابر ومنع إدخال الوقود والمواد الغذائية، بما في ذلك الطحين (الدقيق)، ما تسبب في توقف معظم المخابز عن العمل. ومع انقطاع التيار الكهربائي وشح الغاز، اضطرت بعض العائلات لاستخدام الحطب أو الفحم لطهي خبزها منزليًا، إن وُجد الطحين أساسًا.
يقول المواطن أبو سليم، الذي يقيم في أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة: “لم أتصور يومًا أن الخبز سيغيب عن مائدة أطفالي. أصبحنا نقتات على ما نجده من أرز أو معلبات، أما الخبز فنشتريه أحيانًا من السوق السوداء بأضعاف ثمنه، إذا توفر”.
الخبز.. من حق يومي إلى حلم بعيد
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 80% من سكان غزة أصبحوا يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، فيما صنّفت وكالات إنسانية مناطق من القطاع على شفا المجاعة، خاصة في الشمال. ويعد الخبز من أبرز المواد الغذائية التي تراجعت كميتها بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الرغيف.
وتقول ميساء أبو حسنة، وهي متطوعة في إحدى مبادرات الإغاثة المحلية: “نواجه يوميًا عشرات الطلبات من عائلات تطلب الخبز فقط. لم يعد الناس يبحثون عن اللحوم أو حتى الخضار، فقط بضعة أرغفة تسد رمق أطفالهم”.
تتفاقم الأزمة أكثر في المخيمات ومراكز الإيواء التي تضم مئات الآلاف من النازحين، حيث لا تتوفر المخابز القادرة على تلبية احتياجات هذه الأعداد. كما أن نقص الوقود يعوق تشغيل الأفران التي تحتاج إلى الكهرباء أو الغاز، في وقت تستمر فيه الهجمات الإسرائيلية في تدمير البنية التحتية.
المعونات الغذائية.. غير كافية
رغم الجهود التي تبذلها المنظمات الإنسانية لإدخال مساعدات غذائية إلى القطاع، فإن الكميات التي تدخل عبر معبري رفح وكرم أبو سالم ما زالت محدودة للغاية ولا تغطي سوى جزء بسيط من الاحتياجات. وكشفت منظمة “أوكسفام” مؤخرًا أن المعدل اليومي لدخول الشاحنات الغذائية لا يتجاوز 10% من الحد الأدنى المطلوب.
وأشارت تقارير إعلامية إلى أن بعض المخابز التي حصلت على كميات من الطحين بموجب مساعدات إنسانية اضطرت إلى تقنين الإنتاج، وتوزيع الخبز على شكل حصص محدودة تُمنح عبر “كوبونات” أو بطاقات مخصصة للعائلات الأكثر فقرًا.
أزمة مركّبة.. بلا حلول قريبة
يرى خبراء إنسانيون أن أزمة الخبز في غزة تعكس عمق الانهيار المعيشي الذي يواجهه القطاع، وسط استمرار الحصار وتوسع العمليات العسكرية. ويقول الباحث الاقتصادي محمد أبو ندى: “الخبز ليس مجرد طعام، بل مؤشر على انهيار الأمن الغذائي، وهو ما ينذر بتداعيات اجتماعية وصحية كارثية إذا استمر الوضع على ما هو عليه”.
ويضيف: “كل تأخير في إدخال المساعدات وتوفير الوقود اللازم للمخابز يقرب غزة من حافة المجاعة الحقيقية. يجب على المجتمع الدولي التحرك الفوري لفتح المعابر وتوفير ممر إنساني دائم وآمن”.
وفي ظل غياب أي آفاق لوقف إطلاق النار أو تخفيف القيود المفروضة على غزة، تبقى آمال السكان محدودة. أما الخبز، فقد خرج من كونه حقًا بسيطًا للفرد، ليصبح رمزًا لأزمة عميقة في قطاع يتضور جوعًا كل يوم.