تقف القدس على حافة تصعيد بالغ الخطورة، ليس فقط من حيث الحضور العسكري الإسرائيلي المفرط، بل من حيث التوجه الواضح نحو فرض واقع تهويدي على المدينة، متجاوزًا كل ما نصّ عليه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. سلطات الاحتلال لا تتوقف عن توسيع أدوات السيطرة، وهذه المرة تحت غطاء “الفعاليات الجماهيرية”، التي تُستغل لتحويل المشهد العام في المدينة إلى عرضٍ للقوة والسيادة الإسرائيلية المفروضة قسرًا.
استعراض سنوي للقهر
ما يُسمى بـ”مسيرة الأعلام”، والتي يُفترض أن تمر في قلب الأحياء الفلسطينية المكتظة، هي أكثر من مجرد مسيرة. إنها استعراض سنوي للقهر، يرافقه هتافات عنصرية، واعتداءات على المدنيين، وقمع ممنهج للصحفيين، وكل ذلك بحماية مباشرة من شرطة الاحتلال. تمر هذه المسيرة من باب العامود وحي الواد، وكلها رموز حية للوجود الفلسطيني في القدس، في محاولة مكشوفة لمحو الهوية الأصلية للمدينة. والنتيجة، هي تحويل المساحات المقدسية إلى ساحات اشتباك مفتوحة، يتم فيها ترويع السكان وإجبارهم على إخلاء الشوارع، وإغلاق محلاتهم التجارية بالقوة.
الخطورة لا تكمن فقط في هذه الفعاليات، بل في التوقيت والتزامن مع مشاريع أخرى مثل ماراثون الدراجات الهوائية، والذي يبدو بريئًا من الناحية الرياضية، لكنه يستخدم كوسيلة سياسية لفرض إغلاق شبه كامل للشوارع الحيوية في القدس الشرقية، وفرض “أمر واقع” يتجاوز رمزية الاحتلال إلى ممارسات فعلية على الأرض تهدف إلى سلخ المدينة عن امتدادها الفلسطيني الطبيعي.
سردية استعمارية متطرفة
ما يضاعف من فداحة المشهد هو تصاعد خطاب التحريض الديني، والذي يتغذى على رموز توراتية يُراد تكريسها بالقوة، مثل الترويج لوضع “حجر الأساس للهيكل” المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، وهي خطوة تتجاوز الرمزية إلى محاولة فكرية منظمة لسحب البساط من الرواية العربية والإسلامية والمسيحية، لصالح سردية استعمارية متطرفة تستهدف عمق الهوية المقدسية.
هذه الاستفزازات ليست عشوائية، بل تندرج ضمن مشروع أكبر تُطلق عليه سلطات الاحتلال “القدس الكبرى”، يهدف إلى إعادة هندسة الجغرافيا والديمغرافيا في المدينة، عبر ربط المستوطنات ببعضها، وضم الكتل الاستيطانية، وعزل القرى الفلسطينية في محيط القدس، في محاولة لصياغة واقع لا يمكن العودة عنه، يفرض إسرائيل كـ”المالك الطبيعي” للمدينة.
فرض السيادة بالقوة
وسط كل هذا، يبقى السؤال الأهم: أين يقف المجتمع الدولي؟ صمت الأمم المتحدة والدول الكبرى لم يعد مقبولًا. استهداف هوية القدس وفرض السيادة بالقوة، ليس فقط خرقًا للقانون، بل تهديد مباشر للاستقرار في المنطقة، ولمبدأ السلام القائم على أساس القانون والعدالة. تجاهل ما يحدث في القدس يعني المشاركة بالصمت في اغتيال المدينة وهويتها، وتدمير كل فرص الحلول السياسية الممكنة.
ومع ذلك، ورغم هذا التصعيد المتعدد الأوجه، تبقى القدس مدينة لا تنكسر. شعبها، بإصراره اليومي، يواجه محاولات التهويد بالصمود والرفض، والمشهد المقدسي يثبت مرة تلو الأخرى أن هذه المدينة، مهما حوصرت، لا يمكن أن تُفرّغ من روحها، ولا من حقيقتها.