في غزة، لم يعد القتل مقتصرًا على القصف أو رصاص القنّاصة، بل بات الجوع أحد أبشع وجوه الحرب وأشدها قسوة وفتكًا. إنها حرب بطيئة، لكنها أكثر إيلامًا من اللهب؛ لأنها تُنهي الإنسان من الداخل، تنهك الجسد وتُقوّض الروح، بينما يتفرّج العالم في صمت ثقيل تختبئ خلفه مصالح سياسية وعجز أخلاقي.
حرب التجويع التي يعيشها القطاع ليست مجرد نتيجة عرضية للحصار، بل سياسة ممنهجة، وامتداد استراتيجي لحرب الإبادة، تهدف إلى كسر إرادة الناس وإجبارهم على الاستسلام أو النزوح، أو على الأقل، تفريغ غزة من أهلها عبر أدوات “الهدم الصامت”. لقد تحولت بطون الأطفال إلى ساحات معركة، وأصبحت الوجبات البسيطة حلمًا نادرًا في ظل استهداف ممنهج للمخازن، وشلل تام في إدخال المساعدات الغذائية، وتدمير آلاف الدونمات الزراعية.
كارثة إنسانية
المجاعة لم تعد تلوح في الأفق؛ إنها حاضرة، تنخر أكثر من مليون طفل، وتُحيل الأمهات إلى أجساد شاحبة لا تقوى على إرضاع صغارها. تشير الأرقام إلى أن أكثر من 60 ألف طفل باتوا في مرحلة الخطر الشديد بسبب سوء التغذية الحاد، وسط نقص حاد في الحليب والغذاء والرعاية الطبية. إنها كارثة إنسانية بحجم صامت، لكنها تفوق في فظاعتها كل ما تعرض له القطاع من قصف وتدمير، لأنها تسلب الحياة ببطء وتلغي المستقبل قبل أن يُكتب.
هذا النوع من الحصار ليس جديدًا في سجل الاحتلال، لكنه اليوم يُنفذ بأدوات أكثر تعقيدًا، وتواطؤ دولي أكثر وقاحة. مع كل صاروخ، يرافقه تجميد لقوافل الإغاثة، ومع كل تصريح “دعم لغزة” في المحافل الدولية، يزداد التضييق عند المعابر. القصة هنا تتجاوز الغذاء؛ إنها قصة إذلال ممنهج لجماعة بشرية، وتجريدها من أساسيات الحياة، ليبقى وجودها مرهونًا بموافقة الاحتلال أو برغبة أطراف خارجية لا ترى في الفلسطيني سوى أداة تفاوض أو ورقة ضغط.
عجز عربي وإسلامي عن كسر الحصار
لكن الأشد إيلامًا من النار والجوع، هو خذلان من يُفترض أن يكونوا الأقرب، من محيط عربي وإسلامي عاجز عن كسر الحصار، مكتفٍ بالتنديد والمساعدات الرمزية، وكأن الدم الفلسطيني بات مجرد عنوان خبري لا يُحرك الساحات ولا يستفز الأنظمة. غزة تُجوع علنًا، وتُدفن أطفالها وهم يتضوّرون جوعًا، والعالم يواصل دفن رأسه في الرمال، متذرعًا بالمعادلات المعقدة والحياد الكاذب.
هذه الحرب، التي لا يُسمع فيها دويّ انفجارات، لكنها تُحدث ضجيجًا داخليًا في كل بيت، تُعد من أخطر مراحل الاستهداف لفلسطين. لأنها تستهدف البنية المجتمعية من الأساس، تهاجم القدرة على البقاء، وتزرع اليأس في الجذور. ولأن المجاعة لا تُهزم بصواريخ ولا تُردّ بالبيانات، بل تتطلب موقفًا إنسانيًا واضحًا لا يحتمل التأجيل، فإن بقاء الأمور على حالها هو وصمة في جبين البشرية، وإهانة لكل ما يُقال عن حقوق الإنسان والكرامة.
غزة اليوم لا تنتظر شفقة، بل فعلًا يوقف نزيف الجوع، ويفتح المعابر أمام الحياة، ويُنقذ جيلاً كاملاً من أن يتحوّل إلى مجرّد ذكرى لأجساد نحيلة لفظت أنفاسها تحت سمع العالم وبصره.