اجتمع مجلس الدفاع الفرنسي برئاسة إيمانويل ماكرون يوم الأربعاء 21 مايو/أيار 2025 لمناقشة تقرير سري طال انتظاره يتناول أنشطة جماعة “الإخوان المسلمين” في فرنسا. الاجتماع الذي وصفه وزير الداخلية برونو روتايو بـ”الأساسي”، يؤشر إلى دخول البلاد مرحلة جديدة من التعامل مع ما يُطلق عليه رسميًا “الإسلام السياسي”، وبالأخص مع الشبكات المرتبطة بأيديولوجيا الجماعة التي باتت محل جدل داخلي واسع ونقاش مفتوح بين قيم الجمهورية وحدود حرية المعتقد والتنظيم.
تصعيد رسمي مدروس
ما يجعل هذا الاجتماع لافتًا ليس فقط مضمونه، بل سياقه السياسي والأمني. التقرير، الذي ظل منذ صدوره أواخر 2024 مصنفًا ضمن أسرار الدفاع، تضمن بحسب روتايو معلومات “حساسة للغاية” إلى درجة أن الكشف عنها قد يؤدي إلى تنبيه المعنيين أنفسهم. إلا أن ما يُسمى بـ”النسخة المخففة” من التقرير بدأت تظهر إلى العلن عبر تسريبات إعلامية وصفتها صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية بـ”الصادمة”، حيث كشفت عن ما أسمته “آلية إخوانية حقيقية” تستهدف تقويض الجمهورية من الداخل باستخدام أدوات ناعمة كالتعليم، والعمل الأهلي، والمساعدات الاجتماعية.
لم يكن الاجتماع معزولًا عن الديناميات السياسية الداخلية، خاصة بعد صعود روتايو إلى قيادة حزب “الجمهوريين”، وهو السياسي الذي يسعى منذ انتخابه إلى فرض نفسه كقائد جبهة اليمين التقليدي في مواجهة كل من اليمين المتطرف والإسلام السياسي على حد سواء. وبالتالي، فإن استحضار هذا التقرير في مجلس الدفاع قد لا يكون فقط إجراءً أمنياً، بل أيضاً تموضعاً استراتيجياً لإعادة ترتيب الأولويات الجمهورية عشية انتخابات بلدية ونيابية محلية مرتقبة.
البنية الشبكية والخطر “غير الصاخب”
ما تتحدث عنه الوثائق التي اطلعت عليها الصحافة الفرنسية ليس مجرد تحركات دينية تقليدية، بل نمط من التنظيم الشبكي القائم على اختراق المجالات الرمادية في المجتمع. فبحسب ما ورد في تقارير مثل تلك التي نشرتها إذاعة “مونت كارلو الدولية”، فإن الجماعة تُشرف أو تؤثر على نحو 140 مكان عبادة، إضافة إلى 68 موقعًا آخر يُعتقد بأنها قريبة من الإخوان. كما أن أنشطتها تتوزع على ميادين حيوية مثل التعليم، الرياضة، الدعم الاجتماعي، والتكوين المهني، ما يمنحها قدرة ناعمة على التأثير في فئات مجتمعية تعاني من التهميش والفقر، خصوصًا في الضواحي.
وتبرز منظمة “مسلمو فرنسا” كأحد أبرز الأذرع التي تعتمدها الجماعة، حيث يقدَّر عدد المنتسبين إلى نواتها الصلبة بنحو 400 إلى 1000 شخص، وفق تقديرات “لو فيغارو”. ويُنظر إلى التعليم، لا سيما إنشاء المدارس الحرة والدورات التكوينية، كمجال أولوي يُوظف لاستنساخ مشروع الجماعة وتنشئة جيل يتماهى مع أيديولوجيا “الأسلمة الناعمة”. هنا تحديدًا يُثار القلق الأكبر لدى صناع القرار الفرنسي، حيث يتقاطع المشروع الدعوي مع خطاب متدرج قد ينتهي بإضعاف القيم الجمهورية مثل المساواة بين الجنسين، والحياد الديني، واحترام قوانين العلمانية.
بين التفكيك والحظر
رغم الحديث المتصاعد عن “التهديد الإخواني”، فإن فرنسا لا تبدو بصدد حظر الجماعة بشكل رسمي، وهو ما أكده وزير الداخلية بنفسه. فبرونو روتايو استبعد إمكانية جمع ما يكفي من الأدلة القانونية لحظر الجماعة، مشيرًا إلى أن خطابها “ناعم للغاية” ويمرّر رسائل أيديولوجية من دون خرق مباشر للقانون.
لكن في المقابل، تسعى الدولة الفرنسية إلى اعتماد استراتيجية “التفكيك الوظيفي”، أي استهداف النقاط التي يظهر فيها النفوذ الأخطبوطي للجماعة، مثل النوادي الرياضية، والمدارس الخاصة، ومراكز التدريب، والجمعيات الدينية. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة بالفعل عمليات مداهمة لمراكز يُعتقد بأنها خاضعة لتأثير “الإخوان”، أبرزها معهد تدريبي في شاتو-شينون، في منطقة نيفر.
البعد الجيوسياسي وخطر “التدويل”
بعيدًا عن الحيز الوطني، يضع التقرير المخابراتي النشاط الإخواني في فرنسا ضمن استراتيجية أوسع للجماعة بعد تراجعها في الشرق الأوسط، لاسيما بعد الضربات التي تلقتها في مصر، والسعودية، والإمارات، والأردن. وتظهر تركيا هنا كداعم رئيس، حيث تشير التقارير إلى وجود شراكة ضمنية في دعم بنية خطابية وتنظيمية مشتركة، تنشط عبر الإعلام، والتعليم، ووسائل التواصل الاجتماعي.
وتبرز منطقة البلقان كمجال للتوسع المستقبلي، بما يوحي بأن الجماعة تعيد تموضعها في المجال الأوروبي من خلال واجهات دينية واجتماعية تعتمد في خطابها على سردية المظلومية الدينية والدفاع عن الحريات، لكنها –وفق التقرير– تسعى فعليًا إلى فرض تأويل خاص للشريعة الإسلامية يتعارض مع القيم الدستورية للدول الغربية.
الجدل الداخلي… بين العلمانية والحقوق
الحملة الفرنسية ضد “الانفصالية الإسلامية”، والتي أعلن عنها ماكرون منذ 2020، تندرج ضمن هذه الجهود التي تسعى لموازنة دقيقة بين حماية العلمانية وضمان الحقوق الدينية. وقد واجهت هذه الحملة انتقادات داخلية وخارجية، خصوصًا من منظمات حقوقية وصحف أميركية بارزة مثل “نيويورك تايمز”، التي اتهمت الدولة الفرنسية بانتهاج سياسات قمعية ضد المسلمين. وفي المقابل، دافع قادة الرأي الفرنسيون عن هذه السياسات بوصفها “ضرورة سيادية” لمواجهة ما يعتبرونه تهديدًا مباشرًا للوحدة الوطنية.
القانون الفرنسي الصادر في 2021 حول “احترام مبادئ الجمهورية” يأتي في هذا الإطار، حيث أقر مجموعة من الإجراءات الرقابية على الجمعيات والمراكز الدينية، كما فرض معايير صارمة على التعليم المنزلي وتمويل النشاط الديني الأجنبي.
ما بعد التقرير: اختبار الإرادة السياسية
يبقى السؤال الأهم: هل ستتحول نتائج التقرير السري إلى خارطة طريق سياسية؟ وهل تمتلك الدولة الفرنسية الإرادة القانونية والسياسية لمتابعة هذا الملف حتى النهاية، أم أن الضغوط الحقوقية والانتخابية ستكبح هذا التوجه؟
الإجابة لا تزال مرهونة بسلوك الجماعة خلال المرحلة المقبلة، ومدى قدرتها على مواصلة نشاطها تحت أطر قانونية تحتمي بحرية المعتقد والعمل المدني. غير أن الواضح حتى اللحظة، أن “الإخوان المسلمين” باتوا على رأس الأولويات الأمنية للجمهورية، وأن الخطاب الناعم لم يعد يعفيهم من المتابعة الدقيقة وربما المحاصرة التدريجية.