في لحظة تتقاطع فيها السياسة الدولية مع الأمن الصحي العالمي، أعلنت الصين التزامها بتقديم 500 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية، في خطوة رمزية واستراتيجية تجعلها أكبر ممول للوكالة الأممية خلفًا للولايات المتحدة التي انسحبت منها بأمر من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وقد أثار هذا التحول تساؤلات كبرى حول موازين القوى داخل المؤسسات متعددة الأطراف، ودلالات صعود بكين كمحور بديل عن واشنطن في إدارة الشؤون العالمية، خاصة بعد جائحة كورونا التي كشفت حدود التعاون الدولي وهشاشة التضامن الأممي.
تمويل بحجم الرسالة
تصريحات نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، ليو قوه تشونغ، أمام جمعية الصحة العالمية لم تكن مجرد إعلان مالي. فحين قال إن “العالم يواجه الآن آثار الأحادية وسياسات القوة”، كان يوجه الاتهام السياسي مباشرة إلى الولايات المتحدة، بوصفها الدولة التي اتخذت خيار الانكفاء والانسحاب من المنظمات الدولية، لا سيما خلال حقبة إدارة ترامب، التي اتهمت منظمة الصحة العالمية بالانحياز للصين في بدايات انتشار فيروس كورونا.
المساهمة الصينية بهذا الحجم المالي ليست فقط دعمًا لوجستيًا لمنظمة الصحة، بل أيضًا رسالة صريحة بأن بكين تسعى لملء الفراغ الذي تركته واشنطن، وأنها قادرة على الجمع بين القوة الاقتصادية والمسؤولية الدولية. هذا التحول قد يعيد تشكيل خريطة النفوذ داخل النظام المتعدد الأطراف، خصوصًا في ظل تقلب مواقف واشنطن من الالتزامات الدولية، والتي زادت من شكوك الحلفاء قبل الخصوم.
من التمويل إلى التأثير
التاريخ الحديث للمنظمات الأممية يوضح أن التمويل ليس مجرد أداة دعم، بل وسيلة نفوذ خفية تُمارَس من داخل أروقة المؤسسات. فالجهة الممولة تكتسب حصة رمزية في صنع القرار، وتؤثر بشكل غير مباشر على أجندات المنظمة ومشاريعها وأولوياتها. وإذا ما أصبحت الصين فعلًا أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، فإنها ستكسب أدوات تأثير جديدة، سواء في آليات التصويت، أو في تشكيل اللجان، أو في توجيه البرامج الصحية نحو المناطق والمجالات التي تخدم استراتيجيتها الدولية.
وقد سبق أن استخدمت واشنطن هذا النفوذ لعقود، حيث ربطت تمويلها بسياسات رقابية واشتراطات معينة على إدارة الأزمات الصحية، وفرضت أجندات تتقاطع مع رؤيتها للقيم الليبرالية والحوكمة العالمية. أما الصين، فتتبنى مقاربة مختلفة، تقوم على “عدم التدخل” و”الاحترام المتبادل”، لكنها تسعى أيضًا لنسج شبكات نفوذ بديلة عبر مفهوم “التعاون الجنوبي” الذي يُعيد تعريف العلاقات الدولية من منطلق تنموي، لا أيديولوجي.
السياق الأوسع: ما بعد الانكفاء الأميركي
الخطوة الصينية تأتي في سياق أوسع من التنافس الاستراتيجي بين بكين وواشنطن، والذي انتقل من ميادين التجارة والتكنولوجيا إلى الفضاءات الدبلوماسية والصحية. انسحاب ترامب من منظمة الصحة في يناير لم يكن حدثًا معزولًا، بل جاء ضمن سلسلة انسحابات أميركية من المؤسسات الدولية مثل اليونسكو، واتفاق باريس للمناخ، ومجلس حقوق الإنسان، في مؤشر على ميل متصاعد نحو الأحادية والانغلاق القومي.
وبينما حاولت إدارة بايدن لاحقًا ترميم هذه العلاقات، إلا أن الضرر الذي أحدثته سياسات ترامب ظل عميقًا، وفتح المجال أمام الصين لتوسيع حضورها الدولي دون مقاومة أميركية فعالة. وبات من الواضح أن بكين لا تكتفي بلعب دور الشريك الاقتصادي، بل تسعى لتقديم نفسها كحاملة لمشروع عالمي بديل، يقوم على التنمية المشتركة، وبنية عالمية أكثر توازنًا بين الشمال والجنوب.
الرهانات الصحية والسياسية
توقيت التعهد المالي يحمل هو الآخر دلالات رمزية قوية. إذ لا تزال ذاكرة العالم تحت وطأة جائحة كورونا، التي أضعفت أنظمة الصحة في الدول النامية، وزادت من الحاجة إلى تمويل مرن وشامل لمشاريع الوقاية واللقاحات والاستعداد المستقبلي. منظمة الصحة العالمية، التي واجهت في السنوات الأخيرة تحديات متزايدة في التمويل والاستقلالية، تجد نفسها اليوم أمام فرصة لإعادة بناء قوتها بفضل دعم الصين، لكنّ هذه الفرصة قد تحمل في طياتها أيضًا تحديات تتعلق بقدرة المنظمة على الحفاظ على حياديتها.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن بكين تحاول شراء النفوذ داخل المنظومة الأممية، يعتبر آخرون أن هذا السلوك يعكس “نضجًا استراتيجيًا”، يحول التمويل إلى أداة تفاوض حضارية، بديلاً عن العقوبات والضغوط السياسية التي ظلت واشنطن تمارسها لعقود باسم الديمقراطية.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
التحول الذي نشهده اليوم يذكّر إلى حد بعيد بالحرب الباردة، ولكن بنسختها “الناعمة”، حيث تستبدل الأيديولوجيات الصلبة بالبرامج التنموية، وتُخاض المعارك باللقاحات والمنح بدلًا من الدبابات والطائرات. وإذا كانت واشنطن قد استخدمت “خطة مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية لبناء تحالفاتها الغربية، فإن بكين تعتمد اليوم على “خطط الدعم الصحي” لكسب الحلفاء في الجنوب العالمي.
لكن يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى ستتمكن الصين من تحويل هذا النفوذ المالي إلى زعامة معنوية؟ وهل يقبل العالم بمنظمة صحية ترتهن تدريجيًا لإرادة دولة واحدة، حتى وإن كانت صاعدة؟ الجواب سيعتمد على توازن القوى داخل المنظمة، وعلى يقظة الدول الأعضاء للحفاظ على التعددية الحقيقية داخلها.
منحة أم مناورة؟
في ظاهرها، تبدو مساهمة الصين كرَمًا ماليًا في وقت حرج. لكنها، في عمقها، تعكس تحوّلًا جيوسياسيًا مزلزلًا، تُوظَّف فيه أدوات التعاون الدولي لفرض توازن عالمي جديد. وبقدر ما يُنظر إلى الخطوة الصينية باعتبارها دعمًا لجهود الصحة العالمية، فإنها تحمل في طياتها إشارات واضحة إلى أن عصر الهيمنة الأميركية المنفردة على المؤسسات الدولية يوشك على نهايته، وأن بكين باتت تمضي بخطى واثقة نحو سدّ الفراغات التي تركها الآخرون خلفهم.