أعلنت السعودية استعدادها لضخ استثمارات كبيرة في سوريا، مستندة إلى قرار أميركي مفاجئ برفع العقوبات عن الحكومة السورية، في خطوة اعتبرها مراقبون بداية فعلية لعودة سوريا إلى الحظيرة العربية والدولية من بوابة المال والسياسة معًا. هذه التطورات تفتح الباب أمام مشهد جديد في العلاقة بين دمشق والرياض، وتطرح تساؤلات حول طبيعة الدور السعودي المقبل في مرحلة ما بعد العزلة.
لحظة كسر الجليد
تصريحات وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، حول الفرص “الواعدة” للاستثمار في سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية، لم تكن مجرد تحليل سياسي بقدر ما كانت إعلان نوايا اقتصادية واضحة. فقد أشار الوزير إلى أن “دعم المملكة لسوريا سيشهد تقدمًا ملحوظًا”، معتبراً القرار الأميركي “جريئًا ومهمًا”، وهي إشارات تكشف عن إرادة سياسية سعودية للمضي أبعد من التصريحات، نحو إعادة تشكيل الحضور السعودي داخل المشهد السوري.
رفع العقوبات – بحسب الوزير – لم يكن فقط مقدمة للتطبيع، بل شرطًا ضروريًا لأي تحرك اقتصادي حقيقي في البلاد التي أنهكتها الحرب، والتي ما تزال ترزح تحت وطأة دمار هائل، ونزيف اقتصادي مستمر، وانهيار شبه كامل لمؤسساتها الإنتاجية والخدمية.
لحظة ترامبية أم تحوّل استراتيجي؟
اللافت في السياق، أن إعلان رفع العقوبات لم يصدر عن إدارة بايدن، بل جاء من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال قمة خليجية جمعت واشنطن بدول مجلس التعاون الخليجي. وقد وصف ترامب الخطوة بأنها جزء من “إعادة تقييم شاملة” لسياسة بلاده في الشرق الأوسط، ملمحًا إلى إمكانية فتح قنوات تطبيع بين واشنطن ودمشق.
هذا التصريح، رغم غرابته وتوقيته، قد يكون مؤشراً على تحولات أعمق في الرؤية الأميركية للملف السوري، وخاصة إذا ما تم تثبيت القرار عبر مؤسسات الدولة الأميركية وليس مجرد إعلان فردي من شخصية مثيرة للجدل. ففي حال أُقرّ القرار رسميًا، فإنه سيشكل زلزالًا سياسيًا في بنية العقوبات الغربية على سوريا، وسيفتح الباب أمام تدفقات مالية واستثمارية كانت مجمدة لسنوات.
السعودية تعود من بوابة الاقتصاد
منذ استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، لوّحت دول عديدة – وفي مقدمتها السعودية – برغبتها في المساهمة بإعادة إعمار البلاد، لكن العقوبات الأميركية كانت العائق الأبرز أمام أي تحرك فعلي. الآن، ومع زوال هذا الحاجز (إذا ما ثبت القرار)، فإن الرياض ترى فرصة استراتيجية لمدّ نفوذها الاقتصادي في بلد يتعطش لأي نوع من الإعمار والاستثمار.
المال السعودي، في هذه المرحلة، لا يُنظر إليه كمجرد رأسمال يبحث عن الربح، بل كأداة دبلوماسية ووسيلة ضغط ناعمة، تستطيع من خلالها المملكة أن توازن بين تقوية النظام السوري واحتواء تأثيرات المنافسين الإقليميين، لا سيما إيران وتركيا، اللتين استفادتا من فراغ ما بعد الحرب لترسيخ نفوذهما في الجغرافيا السورية.
الاستثمار بوصفه إعادة تموضع سياسي
السعودية تدرك أن سوريا ما بعد الحرب ليست فقط سوقًا للمال، بل ساحة استراتيجية لإعادة التموقع. فبعد سنوات من القطيعة والدعم الفعلي لفصائل المعارضة، تعود المملكة اليوم إلى دمشق عبر المسار الدبلوماسي ثم الاقتصادي، في مقاربة جديدة تتسق مع تحولها العام نحو “البراغماتية الإقليمية” التي بدأت تتبلور منذ سنوات.
تغيير الوجه السوري، حسب هذا المنطق، لا يعني فقط بناء الجسور والبنى التحتية، بل يعني أيضًا إعادة ضبط التوازنات الداخلية، ودفع دمشق باتجاه خيارات أكثر اعتدالًا وانفتاحًا على محيطها العربي. فالاستثمارات ليست مجرد أدوات مالية، بل رسائل سياسية مشفّرة.
العقبة الأوروبية: ماذا لو بقيت بروكسل على موقفها؟
رغم القرار الأميركي، لا تزال العقوبات الأوروبية قائمة، وهو ما أشار إليه الأمير فيصل بوضوح حين عبّر عن أمل المملكة في رفع العقوبات الأوروبية كذلك. فاستمرار القيود من الجانب الأوروبي قد يُبقي البيئة الاستثمارية في سوريا غير مستقرة، خاصة أن الشركات الكبرى والمصارف الدولية لا تكتفي بالموقف الأميركي وحده لضمان الحماية القانونية والمالية لمشاريعها.
لكن الرهان السعودي يبدو أكبر من مجرّد انتظار المواقف الأوروبية. فالمملكة تراهن على خلق “أمر واقع استثماري” يفرض نفسه تدريجيًا، ويجعل من إعادة الإعمار ورقة ضغط عكسية على الغرب، من خلال إقناعهم بأن ربط العقوبات بالحل السياسي لم يعد عمليًا في ظل التغيرات الإقليمية المتسارعة.
سوريا أمام مفترق طرق اقتصادي
المال السعودي، إذا ما تدفق فعلاً، يمكن أن يكون حاسمًا في إعادة تنشيط الاقتصاد السوري الذي انهار تحت وطأة الحرب والعقوبات والفساد. وقد يشمل هذا الاستثمار قطاعات البنية التحتية، والطاقة، والإسكان، والسياحة، والزراعة، وهي مجالات تحتاجها البلاد بشكل ملح، وتملك السعودية من الخبرة والتمويل ما يؤهلها للعب دور قيادي فيها.
غير أن نجاح هذا السيناريو يظل رهين عوامل متعددة، منها استقرار أمني حقيقي، وبيئة قانونية مشجعة، وقدرة الحكومة السورية على تقديم ضمانات للشركاء الجدد، دون الدخول في حسابات سياسية مغلقة أو التزامات متناقضة مع حلفائها الحاليين.
المال يعيد تشكيل التحالفات
إذا صحّت المؤشرات الحالية، فإن المال السعودي لن يكون مجرد أداة لإعمار سوريا، بل وسيلة لتعديل الاصطفافات الإقليمية، وإعادة ربط دمشق بدوائرها العربية، تحت سقف “صفقة غير معلنة” تشارك فيها واشنطن، وتقودها الرياض. المشهد السوري يتغير بسرعة، وهذه المرة قد تكون أدوات التغيير أكثر نعومة، لكنها لا تقل فعالية.