في تطور جديد يعكس تصاعد التوتر في الضفة الغربية المحتلة، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي طلقات نارية تحذيرية باتجاه وفد دبلوماسي أجنبي كان في زيارة لمدينة جنين شمال الضفة، ما أثار موجة من الإدانات الدولية، وأعاد تسليط الضوء على حجم التعقيد الميداني والسياسي الذي تشهده الأراضي الفلسطينية. ورغم عدم وقوع إصابات، فإن الواقعة التي وُصفت بأنها “مقصودة ومهينة” قد تفتح فصلاً جديدًا من التوتر الدبلوماسي بين إسرائيل وعدد من الدول الأوروبية والعربية.
الحادثة: رصاص في وجه الدبلوماسية
وقعت الحادثة يوم الأربعاء في جنين، وهي المدينة التي تخضع منذ مطلع العام الجاري لعمليات عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق تستهدف ما تسميه تل أبيب “البنية التحتية للإرهاب”. وأثناء زيارة ميدانية نظمها وفد دبلوماسي دولي للاطلاع على الأوضاع الإنسانية وتوثيق الانتهاكات، أطلق جنود الاحتلال أعيرة نارية في الهواء بعدما قال الجيش إن الوفد غادر “المسار المُعتمد”، ما استدعى – بحسب روايته – إطلاق الطلقات لـ”إبعادهم”.
ورغم تقديم الجيش الإسرائيلي ما وصفه بـ”الأسف للإزعاج الذي تسبب به”، فإن ذلك لم يمنع موجة الاستياء الدبلوماسي من الانتشار بسرعة في العواصم المعنية، إذ سارعت عدة دول إلى إعلان رفضها التام لهذا السلوك ووصفت ما جرى بأنه غير مبرر ومخالف للأعراف الدولية.
الإدانات الدولية: استدعاء السفراء والتحقيق مطلب مشترك
كانت كل من إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، تركيا، أيرلندا ومصر من بين الدول التي أدانت السلوك الإسرائيلي، وبعضها أكد أن دبلوماسيين من بلاده كانوا ضمن الوفد المستهدف.
وطالبت تلك الدول بفتح تحقيق فوري، وتقديم تفسير رسمي عن ملابسات الحادث، مشيرة إلى أنها ستستدعي سفراء إسرائيل لديها لمساءلتهم بشأن ما حدث.
اللغة الدبلوماسية التي استخدمت في البيانات الرسمية كانت لافتة، إذ تجاوزت مجرد الإدانة إلى التلميح بأن سلوك إسرائيل بات يتجاوز حدود ما يمكن السكوت عليه. فقد أكدت بعض هذه الدول أن الوفد كان في زيارة “رسمية” إلى أراضٍ فلسطينية واقعة تحت الاحتلال، وأن سلامة الدبلوماسيين كانت يجب أن تكون أولوية لا مجال للتهاون فيها.
السلطة الفلسطينية: استهداف متعمد لطمس الحقيقة
من جهتها، اعتبرت السلطة الفلسطينية أن إطلاق النار على الوفد هو “جريمة شنيعة”، متهمة قوات الاحتلال بمحاولة ترهيب الجهات الدولية ومنعها من الاطلاع على حقيقة ما يجري في الميدان.
وقالت السلطة إن الوفد كان في مهمة لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية، مشيرة إلى أن استهدافه لم يكن صدفة، بل جزءًا من سياسة ممنهجة تسعى إسرائيل من خلالها إلى “حجب الصورة” ومنع العالم من التفاعل مع الكارثة الإنسانية المتفاقمة في الضفة الغربية، لا سيما في جنين التي تحولت إلى ساحة مواجهة يومية بين المسلحين الفلسطينيين وقوات الاحتلال.
جنين: المدينة التي لا تهدأ
منذ مطلع عام 2024، تشهد جنين حملة عسكرية هي الأوسع منذ أكثر من عقدين، حيث تنفذ قوات الاحتلال عمليات اقتحام واعتقال وقصف متكرر، بذريعة ملاحقة جماعات مسلحة فلسطينية. وتحولت المدينة ومخيمها إلى رمز للمقاومة الميدانية، إذ تستهدفها إسرائيل بانتظام بينما تعاني من دمار واسع في البنية التحتية، ونقص حاد في الخدمات الإنسانية.
الوفد الدبلوماسي الذي تعرّض لإطلاق النار كان بصدد تقييم هذا الوضع، في محاولة لرصد الانتهاكات وتقديم تقارير إلى العواصم الأوروبية والمؤسسات الأممية المعنية بالشأن الإنساني وحقوق الإنسان.
رسائل إسرائيلية مشفّرة: مَن يملك الحق في “المراقبة”؟
من وجهة نظر مراقبين، فإن ما جرى ليس مجرد حادث عرضي، بل يحمل أبعادًا سياسية وأمنية عميقة. فإطلاق النار على وفد دبلوماسي، حتى لو لم يكن مباشرًا، ينطوي على رسالة ضمنية مفادها أن إسرائيل لم تعد ترى في المجتمع الدولي وسيطًا محايدًا، بل تعتبر أن أي محاولة لرصد عملياتها الميدانية تمثل تهديدًا لروايتها الرسمية.
هذا التصعيد في التعاطي مع البعثات الأجنبية ليس جديدًا، لكنه هذه المرة طاول ممثلي حكومات، لا مجرد صحفيين أو نشطاء، وهو ما يضع القيادة الإسرائيلية في مواجهة دبلوماسية حرجة، خاصة إذا قررت بعض الدول التصعيد بإجراءات عقابية أو تجميد بعض الاتفاقات الثنائية.
هل ينقلب الصمت الدولي؟
رغم كثافة الإدانات، فإن ما سيحدد تأثير الحادث هو ما إذا كانت هذه الدول ستنتقل من مربع الشجب اللفظي إلى الضغط العملي، كفرض قيود على التعاون العسكري أو مراجعة الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل.
ومع أن سوابق كثيرة لم تُترجم إلى أفعال، إلا أن تكرار الانتهاكات بحق وفود رسمية قد يدفع بعض الحكومات – خاصة في أوروبا – إلى إعادة التفكير في سياسة “ضبط النفس” المتبعة منذ سنوات.
رصاصة في قلب الدبلوماسية
حادثة إطلاق النار على وفد دبلوماسي في جنين ليست مجرد خطأ عسكري، بل تمثل لحظة فارقة قد تكشف عن تغيّر في قواعد الاشتباك بين إسرائيل والمجتمع الدولي. فهي تضع الدبلوماسية أمام اختبار صعب: هل تقف صامتة أمام استهداف ممثليها؟ أم تتحرك لإعادة الاعتبار لهيبتها؟
وفي انتظار نتائج التحقيقات إن وجدت، يبقى المشهد في الضفة مرشحًا لمزيد من التصعيد، في ظل تآكل خطوط الحماية الدولية، وتغوّل الآلة الأمنية الإسرائيلية، على حساب كل القواعد.