أعلن وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي أن العاصمة الإيطالية روما ستستضيف يوم الجمعة الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهي جولة جديدة تأتي بعد أسابيع من استئناف الطرفين الحوار بوساطة سلطنة عمان، في وقت تزداد فيه الشكوك حول جدوى التفاوض مع نظام يتقن فن المناورة ويُجيد استخدام الزمن كسلاح.
العودة إلى الطاولة… ولكن بأي نية؟
المحادثات التي عُقدت آخر مرة في مسقط في 11 مايو/أيار الماضي، جاءت في أعقاب أشهر من الجمود والتصعيد المتبادل بين الطرفين، لا سيما بعد فشل العودة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في عام 2018. ومنذ ذلك الحين، تسارعت خطوات إيران في تخصيب اليورانيوم وتوسيع نفوذها الإقليمي، بينما تراوحت الردود الأميركية بين العقوبات الاقتصادية وعمليات أمنية محدودة.
الجولة المقبلة في روما تبدو للبعض فرصة لكسر الجمود، لكنها بالنسبة لكثير من المراقبين ليست سوى فصل جديد من مراوغات طهران التي ترفع سقفها التفاوضي بينما تُبقي برنامجها النووي قيد التشغيل المتقدم.
خامنئي يُفرغ الحوار من محتواه
تصريحات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي قبل يومين، والتي قال فيها إنه لا يتوقع “أي نتيجة ذات معنى” من المفاوضات، تُظهر بوضوح حجم الفجوة بين الرغبة الدولية في التوصل إلى تسوية، وتصلب المؤسسة الحاكمة في طهران التي لا تزال ترى في البرنامج النووي ورقة تفاوض استراتيجية لا يُفرط بها بسهولة.
تبدو تصريحات خامنئي كأنها صفعة استباقية لأي تفاؤل محتمل، وتفتح الباب أمام تساؤلات حول جدية النظام الإيراني في الانخراط بتسوية حقيقية، أو إن كان الهدف من هذه الجولات هو مجرد كسب الوقت ورفع العتب أمام المجتمع الدولي.
إيران: لاعب غير موثوق أم مستفيد من الوقت؟
منذ عام 2018، تجاوزت إيران معظم القيود الأساسية المنصوص عليها في الاتفاق النووي، بما في ذلك مستوى تخصيب اليورانيوم ونسبة المخزون، في تحدٍ واضح للمجتمع الدولي ولوكالة الطاقة الذرية. وفي الوقت ذاته، لا تكف طهران عن المطالبة برفع شامل للعقوبات وضمانات بعدم الانسحاب الأميركي مستقبلاً، دون أن تُقدّم التزامات مقابلة حقيقية.
وهنا تكمن الإشكالية الأساسية: إيران تفاوض على شروط اتفاق سابق فقد الكثير من مبرراته، بينما هي على الأرض تمضي في تثبيت أمر واقع نووي لا يخلو من طابع عسكري، وإن كانت تنفي ذلك.
وتُشير تقارير استخباراتية متقاطعة إلى أن طهران باتت على بُعد أسابيع فقط من امتلاك قدرة إنتاج سلاح نووي إن أرادت، ما يجعل من استمرار الحوار دون سقف زمني أو آليات ردع مسألة محفوفة بالمخاطر.
عُمان كوسيط: قدرة على الاحتواء أم مساحة للاحتيال السياسي؟
لطالما لعبت سلطنة عمان دور الوسيط الهادئ في الملفات الشائكة، سواء في الأزمة اليمنية أو الملف النووي الإيراني، بفضل حيادها السياسي وعلاقاتها المتوازنة مع كافة الأطراف. إلا أن استمرار المفاوضات في ظل غياب نتائج ملموسة يطرح تساؤلات حول جدوى الوساطة العُمانية، وإن كانت تُستخدم من قبل طهران كغطاء دبلوماسي للاستمرار في التلاعب السياسي.
روما، مثل مسقط، قد تُقدّم أجواء مريحة للحوار، لكن ما يحتاجه الملف النووي الإيراني هو أكثر من مجرد حوارات رمزية. فالإشكال لم يعد تقنيًا، بل سياسي وأيديولوجي بامتياز.
إدارة ترامب: ضغط بلا اتفاق… وواشنطن تبحث “أفضل”
من جانبه، لا يزال دونالد ترامب، الذي أعلن ترشحه مجددًا، يفاخر بأنه انسحب من “أسوأ اتفاق في التاريخ”، مؤكدًا أن أي عودة للتفاهمات السابقة ستكون كارثية. في المقابل، تواصل إدارة بايدن الرهان على الدبلوماسية كخيار أول، لكنها تواجه مأزقًا داخليًا وخارجيًا بسبب عدم قدرتها على تحقيق اختراق ملموس، لا سيما مع غياب الثقة في النوايا الإيرانية وارتفاع منسوب التوتر في الإقليم.
إيران وإشعال الجبهات بالتوازي مع الحوار
اللافت أن إيران تُجري هذه المفاوضات في وقت تصعّد فيه من تدخلاتها الإقليمية، سواء عبر أذرعها المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أو عبر دعمها المباشر للميليشيات التي تستهدف حلفاء واشنطن في المنطقة. هذا السلوك يُبرز تناقضًا صارخًا: نظام يُفاوض من جهة، ويُهدد استقرار المنطقة من جهة أخرى.
وفي ظل هذا الواقع، يبدو أن إيران تستخدم المفاوضات كغطاء لتعزيز أوراقها الجيوسياسية، لا كمدخل لتسوية استراتيجية.
مفاوضات برائحة الخداع
الجولة الخامسة في روما قد تُشكّل محطة مهمة على طريق طويل، لكنها لن تُفضي إلى اتفاق حقيقي ما لم يتغيّر سلوك طهران جذريًا.
فالمشكلة لم تعد في فنيّات التخصيب أو تفاصيل أجهزة الطرد المركزي، بل في عقلية النظام الإيراني الذي يعتبر كل تسوية مؤقتة، وكل اتفاق قابل للنكث، وكل تفاوض فرصة للمناورة، لا للتسوية.
وفيما تراقب عواصم العالم تطورات روما، تبقى العين على طهران: هل هي مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية؟ أم أنها تستغل الزمن لتقترب أكثر من العتبة النووية، تحت ستار الوساطة والوعود الفارغة؟