استهداف الصحفيين في غزة، كما في حالة استشهاد الصحافي حسان مجدي أبو وردة وعائلته في جباليا، لم يعد مجرد “أضرار جانبية” كما تحاول إسرائيل أحياناً أن تبرر عملياتها العسكرية، بل بات سلوكاً ممنهجاً يُعبّر عن استراتيجية واضحة لإسكات الصوت الفلسطيني، ومحاولة التعتيم على ما يحدث داخل قطاع غزة من جرائم وانتهاكات.
توثيق المجازر والانتهاكات
مقتل أكثر من 221 صحافياً منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، يشير إلى أن الصحفيين باتوا في مرمى نيران الاحتلال بشكل مباشر، حتى عندما لا يكون هناك اشتباك في محيطهم، أو حتى حين يكونون داخل منازلهم، كما هو حال أبو وردة. الصحفي في السياق الفلسطيني ليس فقط ناقلاً للأخبار، بل شاهد عيان، و”وثيقة حية” على الانتهاكات اليومية. وبالتالي، فإن استهدافه يعني عملياً استهداف الحقيقة ذاتها.
إسرائيل، في حربها الأخيرة، لجأت إلى استخدام سياسة “الصدمة والترويع” ليس فقط ضد المقاتلين، بل ضد المجتمع بأكمله، بما يشمل الطواقم الطبية والإعلامية. هذه السياسة تُراد منها إيصال رسالة مزدوجة: من جهة بثّ الرعب، ومن جهة أخرى شلّ قدرة القطاع المدني على توثيق المجازر والانتهاكات. وبالفعل، مع تصاعد وتيرة استهداف الصحفيين، تراجعت قدرة المؤسسات الإعلامية الدولية والمحلية على العمل داخل القطاع، مما يجعل الصورة أكثر ضبابية للعالم الخارجي، ويتيح للاحتلال تنفيذ عمليات من دون رقابة حقيقية.
تصنيف استهداف الصحفيين كجريمة حرب
لكن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية لم تمر من دون ردود. على المستوى الحقوقي، تزايدت المطالبات بفتح تحقيقات دولية في استهداف الصحفيين. منظمات مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” و”لجنة حماية الصحفيين” أصدرت تقارير توثق عمليات القتل الممنهج وتطالب بإدخال هذه الجرائم في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. بل إن بعض الجهات الحقوقية ذهبت إلى المطالبة بتصنيف استهداف الصحفيين كجريمة حرب، خاصة عندما يتم داخل مناطق مدنية، ودون إنذار مسبق، أو عندما يُستهدف الصحفي لمجرد حمله الكاميرا.
في الأروقة الأممية، برزت بعض الأصوات المطالبة بإرسال بعثات تحقيق مستقلة، أو على الأقل تشكيل لجان تقصّي حقائق. إلا أن هذه المساعي تصطدم دوماً بعقبات سياسية، أبرزها الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في مجلس الأمن، ما يعطل أي تحرك فعّال. ومع ذلك، فإن تراكم الأدلة، والمشاهد التي تخرج من غزة رغم كل محاولات التعتيم، تسهم تدريجياً في تآكل السردية الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي.
خط المواجهة الأول
المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الرواية. والصحفيون في غزة يقفون في خط المواجهة الأول، رغم الخطر الداهم الذي يحيط بهم. استشهاد أبو وردة هو خسارة لمهنة الصحافة، لكنّه أيضاً تذكير حي بمدى خطورة الكلمة في وجه آلة الحرب، ومدى تصميم الاحتلال على إطفاء أي ضوء يُمكن أن يكشف الحقائق.