خرج رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، ليجدد موقفه الحاسم من المسار السياسي المتعثر، داعياً بوضوح إلى “إجراء الانتخابات مباشرة”، ورافضاً أي محاولة لإدخال البلاد في مرحلة انتقالية جديدة، يراها امتداداً لحالة المراوحة التي تعيشها ليبيا منذ أكثر من عقد.
خلال لقائه عدداً من أعضاء المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، بدا الدبيبة أكثر تشدداً من أي وقت مضى، مصوباً سهامه نحو ما وصفه بـ”التقاعس المتعمد من رئاسة مجلس النواب”، ومؤكداً أن حكومته لن تسلم السلطة إلا لحكومة منبثقة عن برلمان منتخب، ما يضع خطاً فاصلاً في وجه محاولات التمديد المؤسساتي المستمر تحت غطاء التوافقات الشكلية.
رفض التمديد السياسي وتأكيد على أولوية الانتخابات
منذ تسلمه رئاسة الحكومة المؤقتة في مارس 2021 ضمن خريطة طريق أممية، قدم الدبيبة نفسه كواجهة انتقالية تقود البلاد إلى انتخابات عامة كانت مقررة في ديسمبر من العام نفسه. لكن الانقسامات السياسية بين شرق البلاد وغربها، والنزاع بين حكومتي طرابلس وبنغازي، فضلاً عن عرقلة المسار الدستوري، دفعت بالانتخابات إلى دائرة التأجيل المزمن.
اليوم، ومع تجدد المبادرات لتشكيل حكومة جديدة عبر توافقات مجلسي النواب والدولة، يرى الدبيبة في ذلك “انقلاباً ناعماً” على التطلعات الشعبية، ومحاولة مكشوفة لخلق مسارات انتقالية تُفضي إلى التمديد للنخبة السياسية الحالية، وهو ما عبّر عنه صراحة حين قال: “التمديد من خلال خلق مراحل انتقالية جديدة لا شرعية له ولا يمثل إرادة الليبيين”.
الأمن الهش والتحدي الميداني
يأتي تصريح الدبيبة في وقت لم تهدأ فيه الساحة الليبية أمنياً، حيث شهدت طرابلس مؤخراً اشتباكات عنيفة بين تشكيلات مسلحة بعضها محسوب على حكومة الوحدة، وسط أجواء مشحونة بالمظاهرات المتناقضة، بين مناوئين للحكومة ومؤيدين لها. وفي هذا السياق، أكد الدبيبة استمرار حكومته في تفكيك المظاهر المسلحة الخارجة عن الدولة، وتعزيز دور الجيش والشرطة الرسميين، كخطوة ضرورية لتهيئة البيئة الآمنة لإجراء انتخابات ذات مصداقية.
ورغم تعهدات حكومته، تبقى بنية الأمن الليبي شديدة الهشاشة، تتقاطع فيها الولاءات المحلية والعسكرية، وتتداخل فيها الحسابات الجهوية مع المظلات السياسية، ما يجعل أي مسار انتخابي رهينة موازين القوة الميدانية أكثر من كونه محكوماً بإرادة صناديق الاقتراع.
المشهد الموازي في الشرق: حكومة أخرى تتحرك
في بنغازي، وعلى الضفة الأخرى من الانقسام، عقد مجلس النواب الليبي جلسة برئاسة عقيلة صالح، استعرض خلالها برامج عدد من المرشحين لرئاسة “حكومة جديدة”، ما يعكس إصرار البرلمان على المضي في مسار موازٍ للحكومة القائمة في طرابلس. وتُفهم هذه الخطوة في سياق رغبة المجلس في تقويض شرعية حكومة الدبيبة، وفرض واقع سياسي بديل تحت غطاء التحضير للانتخابات، رغم أن الأخير يعتبر هذه التحركات مجرد غطاء للتمديد السياسي.
وأمام تسارع هذه التحركات، أعلنت لجنة برلمانية مشتركة بين مجلسي النواب والدولة بدء فرز ملفات الترشح لرئاسة الحكومة الجديدة، الأمر الذي من شأنه إعادة إنتاج الثنائية التنفيذية التي شكلت عقبة مزمنة أمام أي توافق سياسي حقيقي في البلاد.
بين الشرعية الشعبية والانقسام المؤسساتي
في ظل هذا الانقسام، تبقى معضلة الشرعية هي جوهر الأزمة الليبية: فحكومة الدبيبة تستند إلى اعتراف دولي ما زال قائماً، بينما الحكومة المنافسة التي يدعمها مجلس النواب تستند إلى شرعية تشريعية موضع جدل، بسبب انتهاء ولاية البرلمان منذ سنوات، واستمرار تمسكه بمفاصل السلطة دون تجديد انتخابي.
وفي المقابل، تراهن حكومة الوحدة على خطاب شعبي يتبنى فكرة “الذهاب مباشرة إلى الانتخابات”، مستفيدة من رغبة الليبيين في الخلاص من مراحل الانتقال والتأجيل التي أرهقت البلاد سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
هل من مخرج حقيقي؟
المشهد الليبي اليوم يراوح مكانه في حلقة مفرغة: مبادرات للحل تتعثر بين القوى المتنازعة، محاولات لخلق توافقات تبدو شكلية في جوهرها، وأجندات متضاربة لا تزال تعبث بمصير بلد غني بالنفط لكنه فقير في الاستقرار. وبين كل ذلك، يظهر خطاب الدبيبة كمحاولة لاحتكار خطاب “الشرعية الشعبية”، في مواجهة ما يراه إعادة إنتاج لمنظومة الأمر الواقع.
لكن هذه المحاولة لن تنجح إلا إذا تحولت الأقوال إلى أفعال: أي تأمين الأرضية الأمنية للانتخابات، وضمان حياد المؤسسات، وتفكيك التشكيلات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة. دون ذلك، ستبقى دعوات “الانتخابات المباشرة” مجرد عنوان سياسي في خضم مشهد يزداد تشظياً وتعقيداً.
في النهاية، تبقى الكرة في ملعب الليبيين، شعباً ونخبة، لاختيار ما إذا كانوا سيواصلون التمديد لصراعاتهم، أو يختارون – ولو للمرة الأولى منذ أكثر من عقد – التغيير عبر صناديق الاقتراع.