في غزة، لم يعد السرطان هو العدو الوحيد الذي ينهش أجساد المرضى، بل انضم إليه الحصار، والحرمان، والانهيار الكامل للمنظومة الصحية. هنا، لا يحتاج الإنسان إلى عدو خفي ليهزمه، فالموت يتسلل من أبواب المستشفيات المغلقة، ومن أدراج الأدوية الفارغة، ومن صمت العالم على جريمة بطيئة تُرتكب كل يوم.. في وضح النهار.
ضحايا السرطان والاحتلال
آمنة، أمٌ لثلاثة أطفال، تبلغ من العمر 42 عامًا، كانت تخضع لجلسات علاج كيماوي منتظمة في مستشفى غزة الأوروبي، قبل أن يُغلق بسبب القصف. لم تكن جلساتها سهلة، لكنها كانت تصمد. تقول ابنتها الكبرى، وهي تبكي: “كانت تحاول تمشي حتى لما تتعب، تقول عشان نضل نعيش سوا… بس لما سكروا المستشفى، صارت تتألم بصمت… كل يوم يمر، بيموت فيها شيء.”
آمنة الآن في منزل مهدّم جزئياً، لا دواء، لا طبيب، لا جلسات علاج. فقط ألم يسكن عينيها وقلق لا ينام.
مالك، شاب في الـ19 من عمره، اكتُشف إصابته بسرطان الغدد اللمفاوية قبل أربعة أشهر فقط. أُدرج اسمه ضمن قائمة الحالات العاجلة للتحويل إلى الخارج. انتظر أياماً، ثم أسابيع، ثم شهراً… ولم يأتِ دوره. المعابر مغلقة، والدواء ممنوع، والتقارير الطبية صارت مجرد أوراق تتنقل بين الأمل والخذلان. “كان عنده فرصة يعيش… بس اليوم جسمه صار هزيل، وعيونه بتدور على أمل مش موجود”، تقول والدته التي تمضي ليلها بجانبه تُخفف عنه الألم بكلمات لا تُسكّن شيئاً.
مأساة طفلة
في قلب القطاع، كانت هناك طفلة اسمها ليان، عمرها ست سنوات، مصابة بورم في الدماغ. احتاجت إلى فحوصات تشخيص مبكر وأدوية خاصة غير متوفرة في غزة. والدها يقول: “قالوا بدها تروح على مستشفى بالضفة بسرعة.. سجلنا اسمها، بس الحرب بلشت.. والمستشفى اللي كان ممكن يشخصها، انقصف.”
توفيت ليان قبل أن تُشخَّص حالتها، ماتت مجهولة الهوية الطبّية، في زمن لا يرحم حتى طفلة كانت تبتسم وهي تتحدث عن فستان المدرسة الجديد.
مرضى بلا أدوية
مأساة مرضى السرطان في غزة ليست فقط طبية، بل إنسانية في عمقها. هؤلاء لا يُعانون من المرض فحسب، بل من شعور قاتل بأنهم منسيون، وأن حياتهم أصبحت مجرد أرقام في بيانات وزارة الصحة. فـ64% من أدوية السرطان مفقودة، ولا أجهزة تصوير، ولا إشعاع، ولا حتى سرير يُحتضرون عليه بكرامة.
الوجع لا يُمكن حصره في مستشفى مدمّر أو دواء مفقود.. بل في نظرة أمّ تخاف أن تُغلق عينيها قبل أن تطمئن على أطفالها، في دمعة أب لا يستطيع أن يوفّر لابنه علاجاً يُنقذ حياته، في خوف عائلة تنتظر رسالة سفر لا تأتي.
غزة اليوم، لا تقاتل فقط من أجل البقاء.. بل من أجل حقّ أبسط: أن يُعالج مريضها كما يُعالج أي إنسان آخر في هذا العالم.