منذ الإعلان عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، كأحد أعمدة “الجمهورية الجديدة”، لم تتوقف الوعود الطموحة حول التحول العمراني والاقتصادي الذي ستشهده البلاد، عبر هذا المشروع الضخم الذي يقع شرقي القاهرة. لكن بعد مرور سنوات على انطلاق المشروع، ومع دخول بعض مرافقه حيز التشغيل الجزئي، بات من الضروري التوقف أمام مؤشرات الأداء الحقيقي للشركة القائمة عليه، والسياقات الاقتصادية التي تحيط به، لاسيما مع حديث رسمي عن طرح مرتقب في البورصة، وارتفاع متسارع في تقييم الأصول والأرباح. فهل تشير هذه الأرقام إلى نضج اقتصادي واستثماري فعلي؟ أم أنها تحمل في طياتها قدراً من التفاؤل غير المدعوم بالواقع الاستثماري الكامل؟
تقييم الأصول في مرمى التساؤلات
كشف خالد عباس، رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، أن الشركة بصدد إعادة تقييم أصولها، مشيرًا إلى أن هذا التقييم يخضع لتغييرات دورية نظراً لتطور المشروعات الجاري تنفيذها. ويأتي ذلك بالتزامن مع نية الشركة طرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام، وهو أمر يثير اهتمام المستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء، لكنه يضع أيضاً مسؤولية كبيرة على دقة الأرقام المقدّمة وشفافيتها.
ووفقًا لعباس، فإن القيمة التقديرية لأصول الشركة تبلغ حالياً نحو 350 مليار جنيه، مع توقعات بارتفاعها إلى 420 مليار جنيه بنهاية العام 2025. لكن هذه الأرقام، رغم ضخامتها، تفتقر حتى اللحظة إلى تفصيلات دقيقة حول كيفية احتسابها، ومدى اعتمادها على مشروعات مكتملة فعليًا أو مجرّد مخططات لم تُنفذ بعد.
وتشير تجارب مشابهة في عدد من الدول إلى أن تضخيم التقديرات العقارية قبل الطرح العام يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية عند الاكتتاب، خصوصًا إذا ما اصطدمت توقعات المستثمرين بواقع لا يتطابق مع وعود الورق.
أرباح مرتفعة… لكن إلى أي مدى يمكن الوثوق بها؟
يؤكد عباس أن أرباح الشركة سجلت 30 مليار جنيه خلال عام 2024، مع توقعات بزيادة لا تقل عن 20% هذا العام. وبعيدًا عن التشكيك في قدرة المشروع على تحقيق أرباح ضخمة نظرًا لحجم الاستثمار، إلا أن هذه النسبة من الربحية تستدعي التوقف أمام طبيعتها: هل هي أرباح تشغيلية مستدامة؟ أم نتاج بيع أراضٍ على الورق؟
غالبًا ما تُحقق شركات التطوير العقاري أرباحًا مرحلية نتيجة بيع مساحات كبيرة من الأراضي قبل أن تدخل هذه الأراضي فعليًا في مرحلة التنمية، وهذا ما يفتح الباب لتساؤلات مشروعة حول مدى اتساق هذه الأرباح مع النمو الفعلي على الأرض. وفي ظل غياب تقرير مالي مفصّل مدقق من جهة مستقلة، تظل هذه الأرقام محط تقدير أكثر من كونها دليلاً نهائيًا.
طرح الأراضي: سباق بين الجدارة والملاءة
أبرز ما كشفت عنه الجولة الإعلامية الأخيرة في العاصمة الإدارية هو الإقبال الكبير على الطرح الجديد لقطع الأراضي في منطقة R8، حيث تقدّمت 32 شركة تطوير عقاري للحصول على 16 قطعة. ويُعزى هذا التزاحم إلى التحسّن النسبي في الوضع العقاري بعد موجات التضخم، وكذلك إلى آليات المفاضلة التي باتت تعتمدها الشركة في تخصيص الأراضي.
لا يتم التخصيص بناءً على أسبقية التقديم أو التفاوض المباشر، بل على أساس مفاضلة تشمل الجوانب الفنية، وسابقة الخبرة، وتفضيل السداد بالدولار، إضافة إلى المقدم المالي الأعلى. وهذا الأخير يعكس بوضوح توجّه الشركة نحو تحقيق عائدات سريعة من بيع الأراضي، لكنه يثير تساؤلاً جوهريًا: هل تختار الشركة شركاء استراتيجيين لبناء المدينة، أم تبحث عن المشترين القادرين على الدفع فقط؟ وإذا كانت الملاءة المالية هي المحدد الأول، فهل تكفي وحدها لضمان جودة التنفيذ واستدامة المشروعات؟
طفرة في البنية التحتية أم تضخم في الكُلفة؟
من بين أبرز المؤشرات التي تتباهى بها إدارة المشروع، حجم الاستثمارات المخصصة للبنية التحتية. فقد صرح عباس أن إجمالي ما تم ضخه في مشروعات البنية التحتية للعاصمة الإدارية تجاوز 100 مليار جنيه، في حين تستعد الشركة لضخ 40 مليارًا إضافية خلال 2025.
جزء كبير من هذه الاستثمارات يذهب إلى مشروعات حيوية، مثل محطة المياه العملاقة التي تم الانتهاء من مرحلتها الأولى بطاقة 400 ألف متر مكعب يوميًا، باستثمارات قدرت بـ20 مليار جنيه. غير أن هذه الأرقام – رغم ضخامتها – تفتقر إلى سياق مقارنة واضح: هل التكلفة مبررة بالنسبة إلى حجم السكان الفعليين المتوقعين في المدينة؟ وهل أُنجزت المرافق بوتيرة تواكب البيع والتسليم؟ أم أن هناك فجوة بين مشروعات البنية التحتية المعلنة والاستخدام الفعلي لها؟
أين يقف المواطن من كل هذا؟
رغم كل ما يُعلن من أرقام وتوسعات واستثمارات، يبقى السؤال الأهم: إلى أي مدى تنعكس هذه المشاريع على حياة المواطن المصري العادي؟ هل العاصمة الإدارية مشروع موجه لجمهور محدود من الطبقة العليا والمستثمرين؟ أم أنها ستمثل فعلاً رئة عمرانية واقتصادية جديدة قابلة للنفاذ من مختلف شرائح المجتمع؟
ما زالت مستويات المعيشة، والأسعار، وطبيعة المشروعات السكنية والخدمية المطروحة، تشير إلى محدودية كبيرة في قدرة الطبقة المتوسطة على التملك أو السكن في العاصمة الجديدة. ومع ضعف النقل الجماعي الرابط بين المدينة والقاهرة الكبرى، وغياب أنماط إسكان اقتصادي مستدام، تبقى العاصمة الإدارية مشروعًا يبدو ضخمًا على الورق، لكن نتائجه الفعلية على العدالة العمرانية والاقتصادية لا تزال غير محسومة.
المطلوب من مصر
المؤشرات الرسمية الصادرة عن إدارة العاصمة الإدارية تعكس مشروعًا ضخمًا من حيث الطموح والتمويل، لكنّ القراءة المتأنية للأرقام تكشف ضرورة التريّث قبل إعلان المشروع كقصة نجاح كاملة. فبين تقييمات الأصول، والأرباح المُعلنة، والاعتماد الكثيف على بيع الأراضي، تظل تساؤلات الشفافية والجدوى الاقتصادية والمجتمعية قائمة.
وإذا أرادت الحكومة المصرية أن تكسب ثقة المستثمرين – داخليًا وخارجيًا – فإنها بحاجة إلى أكثر من أرقام ضخمة؛ تحتاج إلى آليات مراجعة مستقلة، وشراكات استراتيجية تُبنى على الجودة لا السعر، ورؤية واضحة تضع المواطن في قلب المشروع لا على هامشه.