في الضفة الغربية، لا تُقاس الحياة الفلسطينية بالزمن أو الحريات، بل تُقاس بما يمكن أن تنتزعه من فرصة يومية للنجاة، في ظل واقع من المطاردة المستمرة والاعتقال التعسفي والتنكيل الممنهج. عودة إسرائيل إلى اعتقال الأسرى المحررين ليست مجرد إجراءات أمنية كما تدّعي، بل هي رسالة سياسية، عنيفة ومباشرة، مضمونها أن الحرية الفلسطينية مهما كانت شكلية، هي مؤقتة وخاضعة للمزاج الاحتلالي وحده.
إعادة اعتقال من سبق وأُفرج عنهم، غالبًا بعد سنوات من الأسر القاسي، يكشف جوهر سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين: الاعتقال ليس وسيلة لتحقيق أمن، بل أداة لاستدامة السيطرة، وكسر الروح المعنوية، وتعطيل البنية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني. الأسير المحرر في نظر الاحتلال ليس “خطرًا محتملًا”، بل رمزًا مقلقًا لثبات الإرادة والانتصار الأخلاقي، ولذلك يُستهدف مباشرة. ما إن يخرج حتى يصبح من جديد تحت المراقبة، ثم المداهمة، ثم الاعتقال، في دورة عقابية لا تنتهي.
تعذيب الأسرى
وتزامن هذه الاعتقالات مع موجة تصعيد غير مسبوقة في اعتداءات المستوطنين، يعطي الصورة الشاملة لطبيعة النظام القائم في الضفة: نظام قمعي، استيطاني، متمدد، لا يكتفي بالاحتلال العسكري، بل يدعم ميليشيات مدنية مسلحة تهاجم الفلسطينيين في أراضيهم، وتحرق ممتلكاتهم، وتُمارس إرهابًا يوميًا بحماية الجيش. هذا التكامل بين المستوطنين وجنود الاحتلال يجعل من حياة الفلسطينيين سلسلة ممتدة من الخطر: إن لم يُسجنك الاحتلال، ربما يحرق بيتك المستوطن، أو يقتلع شجرتك، أو يطاردك في أرضك.
في السجون، تعذيب الأسرى ليس فقط وسيلة لاستنطاقهم، بل عقوبة جماعية تستهدف الهوية والنفسية. الإهمال الطبي، العزل، التحقيق الطويل، الحرمان من الزيارة، كلها ممارسات ممنهجة تهدف إلى تجريد الأسير من إنسانيته. ويُروى الكثير عن أشكال الإذلال داخل السجون، وكأن المطلوب ليس فقط حجز الجسد، بل كسر الإرادة التي تقف وراءه.
هشاشة النظام القانوني الدولي
في هذا السياق، يبدو الصمت الدولي أشبه بتواطؤ. فكل ما يحدث موثق، ومُعلن، ومعروف. ومع ذلك، لا تحرك مؤسسات المجتمع الدولي ساكنًا، إلا في بيانات ناعمة لا تتجاوز التنديد الخجول. لماذا؟
الجواب يكمن في هشاشة النظام القانوني الدولي حين يتعلق الأمر بإسرائيل، التي تمضي في انتهاكاتها مدفوعة بحصانة سياسية توفرها تحالفاتها مع قوى كبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. فحتى عندما تصدر تقارير أممية تدين الاعتقالات والتعذيب، تبقى بلا أدوات تنفيذية. المحكمة الجنائية الدولية تتحرك ببطء قاتل، ومجلس الأمن معطل بحق الفيتو، والأمم المتحدة تصدر بياناتها كمن يرسل زجاجة في البحر.
فضيحة أخلاقية للنظام العالمي
يعيش الفلسطيني اليوم في ضفة تُدار بحكم عسكري، تحت استعمار استيطاني معلن، بلا حماية قانونية، ولا غطاء سياسي، ولا حتى دعم فعلي من نظام حقوق الإنسان الدولي، الذي يبدو عاجزًا أو غير راغب في الاشتباك الجدي مع الاحتلال. الاعتقال التعسفي للأسرى المحررين، وتصاعد تعذيب المعتقلين، ليس فقط انتهاكًا للقانون الدولي، بل فضيحة أخلاقية لنظام عالمي لا يستطيع – أو لا يريد – أن يواجه سلطات تمارس الاستبداد تحت عنوان “الدفاع عن النفس”.
وبينما تُقصف غزة، وتُحرق مزارع الضفة، وتُزج آلاف الأرواح خلف القضبان، يُطرح السؤال الأكبر: إلى متى يبقى الفلسطيني وحده في معركته من أجل كرامته؟ ومتى تتحول العدالة من شعارٍ على المنصات إلى فعلٍ في الميدان؟