مع استئناف سوق دمشق للأوراق المالية نشاطه بعد انقطاع دام أكثر من ستة أشهر، سعت الحكومة السورية إلى إظهار الافتتاح كمؤشر على انطلاقة جديدة نحو مرحلة اقتصادية واعدة، مستندة إلى رؤية تقول إنها تستلهم التجارب الناجحة في المنطقة، لا سيما في دبي وأبو ظبي. غير أن المعطيات الواقعية في أولى جلسات التداول كشفت عن هوّة بين الطموح الرسمي وبين ردود فعل السوق، الأمر الذي يسلط الضوء مجدداً على التحديات الهيكلية العميقة التي لا تزال تحاصر الاقتصاد السوري.
ففي أول أيام العودة إلى النشاط، لم يتجاوز حجم التداول في السوق حدود 241 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 26 ألف دولار أميركي فقط، موزعة على 138 صفقة شملت ما يزيد قليلاً عن 75 ألف سهم، مع تسجيل ارتفاع عام في المؤشر بنسبة 2.19 في المئة. هذه الأرقام، رغم ما تحمله من إشارات رمزية على تحرك السوق، بدت بعيدة كل البعد عن مستوى التطلعات التي رُوّج لها قبل إعادة الافتتاح، لتثير تساؤلات حيال الجاهزية الفعلية لبورصة دمشق للعب دور “المنصة الاستثمارية” التي تطمح لها السلطات.
رئيس مجلس مفوضي هيئة الأوراق والأسواق المالية، عبد الرزاق قاسم، أقر بأن الجلسة الأولى لم تكن بمستوى الآمال المعقودة، مشيراً في تصريحاته لموقع “تلفزيون سوريا” إلى أن ضعف التداول يعكس واقعاً مركباً، لا يمكن اختزاله في يوم واحد. وأوضح قاسم أن جزءاً من التراجع يعود إلى عدم علم عدد من المستثمرين بعودة السوق إلى العمل، نظراً إلى ضعف التغطية الإعلامية المرافقة، إضافة إلى غياب بعض الشركات المدرجة عن الجلسات الأولى نتيجة تخلفها عن تقديم الإفصاحات المالية المطلوبة، وهو ما يمنعها مؤقتاً من المشاركة في التداولات.
أما من حيث الأداء الفردي للشركات، فقد تصدّر “البنك الوطني الإسلامي” قائمة النشاط من حيث قيمة التداول، إذ بلغت تداولاته نحو 98 مليون ليرة سورية، أي ما يقرب من 40% من إجمالي قيمة السوق في تلك الجلسة، وذلك عبر أكثر من 31 ألف سهم، تم تداولها بسعر يقارب 3,109 ليرات للسهم الواحد. ورغم هذا النشاط النسبي، يبقى الرقم مؤشراً محدوداً يعكس حجم السوق الضيق، وافتقاره إلى الديناميكية التي عادة ما تميز البورصات في الاقتصادات الأكثر انفتاحاً واستقراراً.
وفي خلفية هذه الصورة القاتمة، تبرز أزمة السيولة في القطاع المصرفي كأحد الأسباب البنيوية التي تعيق الإقلاع الحقيقي لبورصة دمشق، حيث لا يزال النظام المالي في البلاد يعاني من اختناقات متفاقمة، أبرزها القيود المفروضة على السحب النقدي، والرقابة الشديدة على حركة الأموال، ما يحدّ من قدرة المستثمرين على التداول الحر ويكرس الطابع الرمزي للبورصة أكثر من كونها سوقاً حقيقية لرأس المال.
باختصار، وعلى الرغم من النوايا المعلنة في تحويل السوق إلى منصة جاذبة لرؤوس الأموال، إلا أن المشهد العام ما زال يوحي بأن الطريق طويل أمام بورصة دمشق قبل أن تتمكن من مغادرة طور الإحياء الرمزي إلى مستوى الأداء المؤسسي الفعّال. فتحقيق هذا الهدف يتطلب أكثر من مجرد إعادة افتتاح رسمي، بل إصلاحاً مالياً وهيكلياً جذرياً يعيد الثقة إلى السوق، ويضمن حرية الحركة للمستثمرين، ويؤسس لبيئة تداول حقيقية قادرة على استقطاب الأموال بدل طردها.