وسط مساعٍ دولية مكثفة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، تتعامل القوى الفلسطينية المسلحة مع المقترحات المطروحة بنهج يتسم بالمرونة المشروطة. ففي الوقت الذي تُبدى فيه استعدادًا لقبول الإطار العام للمبادرة التي طُرحت مؤخرًا، تعمد إلى إرفاق موافقتها بجملة من التعديلات الجوهرية التي تعكس حسابات سياسية وأمنية معقدة.
قبول مشروط… لا تفويض مطلق
الرد الأولي من الحركة الفاعلة ميدانيًا في غزة لم يتضمن رفضًا قاطعًا للمبادرة، بل يمكن وصفه بصيغة “نعم، ولكن”. القبول المبدئي شمل بنودًا تتعلق بإطلاق سراح دفعة من المحتجزين المدنيين، ووقف إطلاق نار مؤقت يمتد إلى 60 يومًا، وهي مدة كافية من الناحية الإنسانية لتخفيف وطأة الكارثة المتفاقمة في القطاع. غير أن الحركة اشترطت تعديلات تتعلق بالمرحلة التي تعقب هذه الهدنة، مطالبة بضمانات لإنهاء الحرب نهائيًا، وبأن يكون الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين على مراحل وليس دفعة واحدة خلال أسبوع، كما يقترح الجانب الآخر.
كما يتضمن الرد المقترح تشكيل لجنة وطنية لإدارة شؤون قطاع غزة بعد انقضاء فترة الهدنة، في محاولة لفتح ملف “اليوم التالي” ضمن شروط مقبولة فلسطينيًا. هذه النقطة بالتحديد تمثّل خطًا أحمر بالنسبة للجهات التي تصر على استبعاد الفصائل المسلحة من أي ترتيبات مستقبلية للحكم في غزة، ما يعكس الفجوة الواسعة في الرؤى حول طبيعة الحل السياسي المحتمل.
ضغط مزدوج: الشارع والإقليم
الواقع السياسي للحركة على الأرض يبدو أكثر هشاشة مما يظهر في التصريحات العلنية. فهي تخضع في هذه المرحلة لضغوط من نوعين متداخلين. الأول داخلي وشعبي، مرتبط بالكارثة الإنسانية التي يعيشها السكان في قطاع غزة، من مجاعة وأمراض ودمار هائل طال البنية التحتية، ناهيك عن أعداد الضحايا التي ترتفع يوميًا في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية.
أما الضغط الثاني فإقليمي، ينبع من تعقيدات العلاقة مع الحلفاء في المنطقة. وفي حين توصف العلاقة مع بعض القوى الإقليمية بأنها شراكة استراتيجية، إلا أن قرارات الميدان لا تُتخذ بمعزل عن التنسيق مع تلك الأطراف. وهو تنسيق قد يقيّد مساحة المناورة، خصوصًا إذا كان القبول بأي اتفاق يمنح خصوم هذه القوى مكاسب سياسية أو عسكرية، كما هو الحال في حال استفاد الطرف الإسرائيلي من الهدنة لتحقيق مكاسب داخلية أو شن عمليات عسكرية خارجية في جبهات أخرى.
حسابات ما بعد الحرب: من يدير غزة؟
من بين أهم بنود الرد الفلسطيني على المبادرة المطروحة، تبرز مسألة تشكيل هيئة أو حكومة انتقالية لإدارة القطاع بعد انتهاء العمليات القتالية. هذا المطلب يعكس رغبة واضحة في أن لا يُفرض مستقبل غزة من الخارج، وأن تبقى القوى الموجودة حاليًا طرفًا في أي تسوية، سواء بصيغ مباشرة أو غير مباشرة.
هذا التوجه يتصادم مع رغبة أطراف دولية وإقليمية تسعى إلى هندسة واقع جديد في غزة، يستبعد تمامًا الفاعلين الحاليين. لكنه يعبر في الوقت ذاته عن إدراك داخلي بأن المعركة لا تتعلق فقط بوقف إطلاق النار، بل بموقع الحركة في النظام السياسي الفلسطيني بعد الحرب، وهو ما يزيد من تعقيد الوصول إلى اتفاق شامل.
أولوية إنهاء الحرب… ولكن بشروط
على الرغم من كل ما سبق، فإن أولوية الحركة في هذه المرحلة لا تزال تتمثل في وقف الحرب، وإنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي داخل القطاع، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية والعودة التدريجية إلى الحياة المدنية. لكن هذه الأولوية مرتبطة بإجماع داخلي على ألا يكون ذلك على حساب الموقف السياسي أو دون ضمانات للمرحلة المقبلة.
باختصار، فإن موقف الفصائل في غزة من المقترحات الحالية لا يعكس مجرد تكتيك تفاوضي، بل يتصل بموقعها المستقبلي، وتوازنات إقليمية، وحسابات تتعلق ببقاءها السياسي والرمزي في الساحة الفلسطينية. وبين ضغوط الميدان وتعقيدات السياسة، يبقى احتمال التوصل إلى اتفاق نهائي مرهونًا بقدرة الأطراف كافة على تقديم تنازلات متبادلة، تحفظ ماء الوجه دون أن تُغلق أبواب المستقبل.