عندما سقط معمر القذافي في سرت خلال أكتوبر 2011، ظن كثيرون أن ليبيا تخلّصت من ماضيها الدكتاتوري وفتحت أبوابها لعهد جديد من الديمقراطية والاستقرار. لكن بعد أكثر من عقد على مقتله، يبدو أن غيابه لم يكن نهاية لفصله السياسي، بل بداية لتحوّلات عبثية أعادت الكثير من ظلال حكمه إلى الساحة، سياسيًا واجتماعيًا وحتى نفسانيًا. فليبيا، رغم كل المتغيرات، ما زالت تراوح مكانها في فراغ الدولة، متأرجحة بين ماضٍ لم يُدفن ومستقبل لم يُولَد.
فراغ ما بعد السقوط: الدولة تتفكك والنظام لا يزول
أحد أبرز مظاهر إرث القذافي هو تفكيك الدولة. فالرجل بنى سلطته على تعطيل المؤسسات لا على بنائها، واستعاض عنها بالولاء الشخصي والمجالس الشكلية ونظريات “الكتاب الأخضر”. وعندما أُزيح، لم تجد ليبيا مؤسسات قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية، بل واجهت مشهدًا تتنازعه الميليشيات، والفصائل، والمصالح الدولية. ومنذ ذلك الوقت، باتت ليبيا ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الداخلية والتدخلات الخارجية، بعد أن كان القذافي هو من يحتكر اللعبة بأكملها.
الحنين إلى النظام: وهم الاستقرار في ذاكرة منهكة
مع تزايد الفوضى، وتآكل سلطة الدولة، واشتداد الصراع الأهلي، بدأت نغمة الحنين إلى القذافي تتسلل إلى النقاش العام. لم يكن ذلك حنينًا إلى شخصه بقدر ما هو تعبير عن الحنين إلى نظام مركزي واحد، إلى استقرار مزعوم، إلى أيام لم تكن البلاد فيها مفتوحة على الاقتتال اليومي واللا قانون. وهكذا، تحوّلت دكتاتوريته من لعنة إلى ملاذ نفسي، يلوذ به البعض في مواجهة حاضر شديد التقلب، ومجتمع لم يجد توافقًا على مشروع سياسي جامع.
من رمزية الإرث إلى حضوره المادي
الأثر المتبقي للقذافي لم يعد مجازيًا فقط، بل أصبح محسوسًا في مشهد مدن مدمّرة كتاورغاء، المهجّرة جماعيًا بعد اتهام سكانها بدعم نظامه، أو في الشعارات التي تعود إلى الشوارع، وحتى في محاولة ابنه سيف الإسلام القفز مجددًا إلى كرسي الحكم. الأخير، حين أعلن ترشحه للانتخابات في 2021، لم يخف إرث والده، بل استثمره، مدفوعًا بتعاطف قبائل الجنوب وبعض شرائح الليبيين. لقد قدّم نفسه كامتداد لسلطة قوية، في مواجهة طبقة سياسية انهارت مصداقيتها تحت ثقل الانقسامات والفساد.
الفوضى المسلحة: ميليشيات بديلاً عن الدولة
ما بعد القذافي لم يشهد انبعاث الدولة، بل انفجار البدائل غير الرسمية. ميليشيات، مجالس انتقالية، حكومتان متنافستان، وكل ذلك في ظل غياب سلطة واحدة تحتكر السلاح أو القرار. كان اغتيال عبدالغني الككلي، أحد أبرز قادة الميليشيات في طرابلس، بمثابة صفعة لبنية أمنية هشة لا تحتمل أي زلزال. وقد فجّرت وفاته اشتباكات دامية، كشفت مدى ارتهان العاصمة لمعادلات القوة غير الرسمية، وأبرزت من جديد أن السلاح هو من يملك الكلمة في دولة بلا قانون.
تدخلات خارجية: من مناهضة الإمبريالية إلى التبعية
المفارقة الكبرى أن القذافي الذي عُرف بمناهضته للغرب والإمبريالية، خلّف بلداً يتنافس عليه اللاعبون الدوليون. مرتزقة من روسيا، ميليشيات سودانية، دعم تركي هنا، ورغبات فرنسية هناك. لقد صارت ليبيا مسرحًا مفتوحًا للتدخل، تفتقد السيادة، وتستقبل الأجندات الخارجية كما لو أنها لا تزال خاضعة لوصاية استعمارية جديدة. وتبدو “السيادة” التي تغنّى بها القذافي مجرد ذكرى رمزية في بلد مجزأ القرار.
الانتخابات المؤجلة: ديمقراطية على الورق فقط
المشروع الديمقراطي الذي بُشّر به الليبيون بعد الثورة لم يجد أرضًا ينبت فيها. تأجلت الانتخابات مرارًا، وتحوّلت من استحقاق سيادي إلى ورقة تفاوض بين الأطراف المتنازعة. ترشح سيف الإسلام وحده كان كفيلاً بإعادة الاستقطاب إلى مربّعه الأول: هل يمكن السماح لرمز من رموز النظام القديم بالعودة؟ وهل تكون الانتخابات بداية للتجديد أم لعودة الماضي؟ لقد تحول الاستحقاق الانتخابي إلى أزمة هوية، أكثر منه آلية لحل النزاع.
اقتصاد منهك ونفط مُسيس
النفط، الذي كان مصدر تمويل القذافي الأول لبسط سلطته داخليًا وخارجياً، أصبح بدوره أداة للابتزاز السياسي بين الفصائل. تهديد الحكومة الشرقية بإعلان “القوة القاهرة” على الحقول النفطية في مايو الماضي كشف أن هذا المورد الوطني لم يعد يوحّد البلاد، بل يهدد بتقسيمها أكثر. وتحوّل إلى ورقة مساومة، يستخدمها كل طرف لتثبيت شرعيته، أو نزعها من خصمه.
تاورغاء: مدينة تحكي حكاية وطن
لا يمكن فهم ليبيا ما بعد القذافي دون النظر إلى مأساة مدينة تاورغاء. المدينة، التي كانت تؤوي الآلاف من الموالين للنظام، هُجّرت بالكامل عقابًا جماعيًا على موقف سياسي. ومنذ 2011، لم يُسمح لسكانها بالعودة. بقيت البيوت محروقة، والطرقات مهجورة، والناس مبعثرين في مخيمات. تاورغاء اليوم ليست مجرد مدينة مهجّرة، بل مرآة لفشل المصالحة الوطنية، ودرس دامغ على أن الثورة لم تتحوّل إلى عدالة، بل إلى دوامة من الانتقام.
ليبيا بين شبح الماضي ومجهول المستقبل
أثبتت التجربة الليبية أن إسقاط الدكتاتور لا يكفي لبناء الدولة. فغياب القذافي لم ينهِ سلطته الرمزية، بل جعل منها نقطة مرجعية – سلبية كانت أم إيجابية – في كل نقاش سياسي. واليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات، تقف ليبيا أمام سؤال لم يُحسم بعد: هل يمكن بناء دولة جديدة دون المرور بالمصالحة مع الذات، ومع التاريخ، ومع حقيقة أن إرث القذافي لا يزال حاضرًا بقوة، لا لأن الليبيين يريدونه بالضرورة، بل لأن البديل لم ينجح في إقناعهم بأنه أفضل؟