يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي تحدياً غير مسبوق يتمثل في نقص كبير في القوى البشرية، يصل إلى حوالي 10 آلاف جندي، منهم 6 آلاف عنصر مطلوبين للوحدات القتالية. هذا النقص يتزامن مع واحدة من أعنف وأطول العمليات العسكرية في قطاع غزة، ما يجعل الأزمة أكثر حدة من أي وقت مضى، خاصة في ظل اتساع نطاق العمليات والتصعيد المستمر.
تجنيد اليهود المتشددين
هذا العجز يعكس مدى الاستنزاف الذي تعرضت له المؤسسة العسكرية الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية، سواء بفعل طول أمد العمليات أو بفعل الخسائر البشرية والنفسية التي لحقت بالجنود، إلى جانب تراجع المعنويات الداخلية داخل وحدات الجيش. هنا تتكشف حدود القوة الإسرائيلية، ليس فقط في الميدان، بل أيضاً في القدرة على تجنيد الموارد البشرية الكافية لمواصلة العمليات.
وفي هذا السياق، تطرح القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية خياراً ظل لفترة طويلة موضع نقاش داخلي حاد: تجنيد اليهود المتشددين (الحريديم). هؤلاء يشكّلون شريحة ديموغرافية كبيرة ومتنامية داخل المجتمع الإسرائيلي، لكنهم يتمتعون بإعفاء شبه كامل من الخدمة العسكرية منذ قيام الدولة، لأسباب دينية وسياسية.
الاحتقان الشعبي في إسرائيل
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي لطالما تجنّب فتح هذا الملف تفادياً لمواجهة مباشرة مع شركائه من الأحزاب الدينية، يجد نفسه الآن أمام معادلة حرجة. من جهة، الجيش بحاجة ماسة إلى عناصر جديدة، خصوصاً في الوحدات القتالية، ومن جهة أخرى، أي محاولة لفرض الخدمة العسكرية على الحريديم قد تُفجّر الائتلاف الحكومي الذي يستند إلى دعم أحزاب دينية تعتبر هذا الملف “خطاً أحمر” لا يمكن تجاوزه.
المفارقة هنا أن الأزمة الحالية قد تُشكّل فرصة تاريخية – أو مخاطرة كبيرة – لنتنياهو. فإذا نجح في إيجاد صيغة توافقية تُدخِل الحريديم إلى الخدمة، ولو تدريجياً أو في إطار خاص، فقد يُقدّم نفسه كرجل الدولة الذي واجه التحدي الداخلي بشجاعة. أما إذا أخفق أو رضخ للضغط، فإن ذلك قد يُعمّق الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، ويزيد من الاحتقان الشعبي، خاصة لدى العلمانيين الذين يشعرون أن “أبناءهم يُقتلون في غزة بينما الحريديم يدرسون التوراة في القدس”.
نفوذ الحريديم داخل الكنيست
الاحتجاجات الداخلية الأخيرة ضد حكومة نتنياهو، والتي حملت شعارات تدعو للمساواة في “تحمل العبء”، تُظهر بوضوح أن هناك بيئة شعبية مستعدة لمساءلة الحكومة إذا استمر الإعفاء. لكن في المقابل، نفوذ الحريديم داخل الكنيست، وتحكمهم في مفاتيح بقاء الحكومة، يجعل أي خطوة نحو التجنيد الإجباري محفوفة بالمخاطر السياسية.
يمكن القول إن الأزمة داخل الجيش الإسرائيلي اليوم لم تعد فقط مسألة لوجستية أو عددية، بل تحولت إلى ملف سياسي متفجر. فالمعادلة بين الحاجة العسكرية والشرخ المجتمعي تضع نتنياهو في وضع لا يُحسد عليه: إما أن يُحدث تغييراً جذرياً في معادلة الخدمة العسكرية، أو أن يدفع الثمن سياسياً وأمنياً في ظل صراع مفتوح ومستقبل غامض.