لم يعد الخلاف بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك مجرد تبادل للانتقادات على منصات التواصل أو تقاطع في الرؤى السياسية؛ بل تحوّل إلى صدام مفتوح يعكس تصدعات أعمق داخل الحزب الجمهوري. فالهجمات المتبادلة بين الرجلين خلال الأيام الأخيرة، التي انحدرت إلى مستوى شخصي، تكشف عن خلل بنيوي في توازنات التأثير والنفوذ داخل التيار المحافظ في أميركا، في لحظة سياسية بالغة الحساسية مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2026.
الخلاف يتجاوز الشخصنة: قراءة في الجذور السياسية
على السطح، يبدو الاشتباك مدفوعاً بتصريحات نارية وتغريدات هجومية، لكن ما يُخفيه هذا المشهد هو صراع على من يملك الحق في توجيه دفة الحزب الجمهوري. فبينما يرى ترمب نفسه الزعيم الطبيعي للحزب، بل المُنقذ الوحيد لما يسميه “أميركا القديمة”، يحاول ماسك التموقع كصوت “اليمين الليبرالي” أو “المحافظ التكنولوجي”، مع أجندة تجمع بين حرية التعبير، واقتصاد السوق، والحد من الرقابة الرقمية.
ماسك، الذي كان داعماً لترمب في مراحل سابقة، بدأ في الابتعاد التدريجي عن خطابه الشعبوي، بل وذهب إلى حد تمويل بعض المشاريع الإعلامية التي تنتقد ترمب أو تُعلي من شأن منافسيه الجمهوريين. وهذا ما دفع ترمب إلى شن هجوم مباشر، محذراً إياه من “اللعب مع الديمقراطيين”، في إشارة إلى اتهامات ضمنية بأن ماسك قد يسهم في تقويض فرص الحزب.
الانقسام الجمهوري: التيار الشعبوي ضد التكنوقراط الجدد
منذ صعود ترمب إلى السلطة عام 2016، خضع الحزب الجمهوري لتحول عميق نحو الشعبوية، ما همّش رموزه التقليدية وأدخل شخصيات مثل ترمب ومؤيديه في واجهة القرار. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بروز تيار آخر داخل الحزب، يرفض العودة إلى المدرسة “البوشية” التقليدية، لكنه في الوقت نفسه يتخوف من الانغلاق القومي الذي يمثله ترمب.
إيلون ماسك، رغم أنه ليس سياسياً بالمعنى التقليدي، أصبح بمثابة رمز لهذا التيار الجديد: متعلم، ثري، صاحب نفوذ إعلامي، ويملك رؤية مغايرة للتنمية والرقابة والذكاء الاصطناعي. وتحالفه مع بعض الجمهوريين التقدميين في الكونغرس خلق جبهة جديدة داخل الحزب، تخيف ترمب وتستفز غروره السياسي، وتعيد تشكيل سؤال الهوية داخل الحزب الجمهوري.
تشريعات ترمب المعلقة: خطر التأثير على إرثه السياسي
تأتي هذه المواجهة في لحظة دقيقة، حيث يسعى ترمب إلى تمرير أحد أبرز مشاريعه التشريعية منذ مغادرته البيت الأبيض، والمتعلق بإعادة هيكلة الضرائب وتقنين إجراءات الهجرة لصالح القواعد المحافظة. ومع كل شقاق داخلي، تزداد صعوبة التوصل إلى إجماع حزبي، وهو ما قد يؤدي إلى تعطيل المشروع أو تمريره بصيغة مشوّهة، مما سيقوّض صورة ترمب كقائد سياسي فعال.
التشكيك الذي أثاره ماسك حول توجهات ترمب لا يقتصر على دائرة النخبة، بل يمتد إلى القواعد الناخبة التي بدأت تتساءل عن جدوى العودة إلى خطاب “أميركا أولاً” في ظل تعقيدات العالم الجديد، لا سيما في مجال التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
انتخابات 2026: السيناريوهات المحتملة في ظل الشقاق
مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2026، تزداد أهمية التماسك داخل الحزب الجمهوري. لكن الهجوم المتبادل بين ترمب وماسك أطلق سلسلة من التوترات قد تضعف من وحدة الرسالة الانتخابية. الجمهوريون المعتدلون يخشون من خسارة المستقلين إذا ما استمر ترمب في تأجيج النزاعات، بينما يُحذر المحافظون الجدد من أن منح ماسك نفوذاً أوسع داخل الحزب قد يُحدث شرخاً لا يمكن رتقه.
السيناريو الأكثر خطورة يتمثل في احتمال تكرار ما حدث في انتخابات 2022، حين فشل الحزب في استثمار نقاط ضعف الديمقراطيين بسبب غياب وحدة الخطاب وارتباك الرسائل الداخلية.
في النهاية: الحزب بين طموحات الأفراد وأجندة الأمة
إن الأزمة الراهنة بين ترمب وماسك لا تُقرأ فقط بوصفها خصومة بين شخصيتين نافذتين، بل هي مرآة لحالة الانقسام التي تضرب الحزب الجمهوري في العمق. وإذا لم يستطع الجمهوريون تهدئة هذه الجبهات، فإن ثمنها قد لا يقتصر على خسارة انتخابات 2026، بل قد يمتد إلى أزمة هوية طويلة الأمد تعصف بكل ما بناه الحزب منذ تحوله الكبير في 2016.