السيطرة الإسرائيلية على سفينة “مادلين” التي كانت ضمن تحالف أسطول الحرية المتجه إلى قطاع غزة تحمل دلالات عميقة على أكثر من مستوى: السياسي، القانوني، الإنساني، والإعلامي. هذا الحدث لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق المتفجر في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، ولا عن البيئة الدولية المتوترة التي تتصاعد فيها الضغوط على إسرائيل بسبب حصارها المزدوج: العسكري والسياسي.
اتهامات بالقرصنة
أولًا، من الناحية السياسية، تعكس عملية اعتراض السفينة تمسك إسرائيل بإحكام سيطرتها الكاملة على كل ما يدخل إلى قطاع غزة، ليس فقط عسكرياً بل حتى رمزياً. “مادلين” لم تكن مجرد قارب يحمل مساعدات إنسانية، بل كانت رسالة تحدٍّ دولية موجهة إلى إسرائيل، مفادها أن الحصار بات غير مقبول أخلاقياً ولا قانونياً. وقد ضمت السفينة شخصيات رمزية مثل غريتا ثونبرغ، أيقونة النضال المناخي، مما أضفى على العملية بُعداً إعلامياً قوياً، وساهم في تسليط الضوء العالمي على الحصار. ومع ذلك، فإن قيام إسرائيل باعتقال النشطاء والسيطرة على السفينة يعكس تصميمها على منع أي محاولات لكسر الحصار، حتى لو جاءت من جهات مدنية سلمية.
ثانيًا، على الصعيد القانوني، فإن اعتراض السفينة في المياه الدولية يفتح الباب أمام اتهامات بالقرصنة بموجب القانون الدولي، كما جاء في التصريحات الإيرانية. وإذا ثبت فعلاً أن “مادلين” كانت خارج المياه الإقليمية لإسرائيل، فإن ذلك يشكل سابقة خطيرة قد تدفع منظمات حقوقية ومحاكم دولية إلى إعادة النظر في حدود المشروعية التي تعمل ضمنها إسرائيل في البحر المتوسط. هذا التصعيد ليس الأول من نوعه، لكنه يعيد طرح مسألة الاستخدام المفرط للقوة خارج نطاق السيادة الجغرافية للدولة، ويثير جدلاً قانونياً قد يمتد إلى أروقة الأمم المتحدة والمحاكم الدولية.
توجيه رسالة تخويف
ثالثًا، على المستوى الإنساني، تمثل السفينة وجهًا من أوجه التحرك المدني العابر للحدود من أجل دعم غزة المحاصرة، التي تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنها مهددة بمجاعة جماعية. إجهاض هذه المبادرة لا يمكن فهمه سوى ضمن محاولة ممنهجة لعزل القطاع ليس فقط عن الإمدادات، بل أيضاً عن التضامن العالمي المتزايد. التعامل الإسرائيلي مع السفينة لا يُظهر فقط رفضاً للمساعدات، بل استهانة بالرأي العام الدولي المتعاطف، وهو ما يعكس إصراراً على ترسيخ الحصار كأداة عقاب جماعي، رغم ما يحمله ذلك من تداعيات أخلاقية وإنسانية كارثية.
رابعًا، من حيث التأثير الإعلامي، فإن ظهور غريتا ثونبرغ ضمن هذا التحرك أكسبه زخماً شعبياً عالمياً، وأجبر وسائل الإعلام الكبرى على تغطية الحدث، ولو من منظور إنساني لا سياسي. إسرائيل من جهتها حاولت امتصاص هذا الزخم بالسخرية من طبيعة الرحلة ووصم النشطاء بأنهم “أبواق دعاية لحماس”، في محاولة لتشويه الصورة الذهنية للمبادرة. إلا أن اللجوء إلى عرض مشاهد من هجوم 7 أكتوبر للنشطاء المعتقلين يظهر رغبة إسرائيل في توجيه رسالة تخويف ورسم ارتباط نفسي بين العمل الإنساني والعمل “الإرهابي” في نظرها، وهي استراتيجية تقوم على تجريم كل تعاطف مع غزة، سواء كان سياسياً أو مدنياً.
الصراع في البحر
هذه الحادثة ستعيد النقاش الدولي حول شرعية الحصار المفروض على غزة، خاصة مع تصاعد الدعوات لإرسال قوافل أخرى من موانئ البحر المتوسط كما دعت فرانشيسكا ألبانيزي. قد لا تكون “مادلين” قد وصلت إلى وجهتها، لكنها فتحت مجددًا باب التضامن الشعبي، وأعادت الحصار إلى واجهة الجدل الدولي، في وقت حساس تستعد فيه الأمم المتحدة لعقد مؤتمر جديد حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وبالتالي، فإن ما فعله الجيش الإسرائيلي يتجاوز كونه إجراءاً أمنياً أو بحرياً، ليصبح فعلًا سياسيًا يحمل دلالات توسعية واضحة، ويجعل من البحر ساحة أخرى للصراع على الرواية، الشرعية، والعدالة.