مأساة الأطفال في غزة لم تعد مجرد أرقام متصاعدة أو تقارير أممية صادمة، بل تحوّلت إلى جرح مفتوح في الضمير الإنساني، يعبّر عن نفسه اليوم عبر مبادرات مدنية جريئة، كما في دعوة الأمهات الفرنسيات لمسيرة أمام قصر الإليزيه. هذه المبادرة، وإن بدت رمزية في مظهرها، تحمل مضمونًا سياسيًا وإنسانيًا عميقًا، وتكشف عن تصاعد وعي شعبي أوروبي غير مسبوق تجاه جرائم ترتكب يوميًا بحق أطفال أبرياء، في غفلة من العالم الرسمي.
فرض عقوبات على إسرائيل
المشهد في غزة صار مألوفًا حد القسوة: أطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض بلا أطراف، آخرون محترقون بالكامل، وآلاف يُدفنون دون أن يُعرفوا بأسمائهم. وفق الأمم المتحدة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، استُشهد أكثر من 15 ألف طفل، فيما أُصيب عشرات الآلاف، وجرى بتر أطراف الآلاف دون تخدير بسبب نقص الإمكانيات. هذه الأرقام، التي تصدم حتى أكثر المتابعين برودًا، تُشير إلى أن الأطفال لم يعودوا “ضحايا جانبيين” للحرب، بل في صلب سياسة العقاب الجماعي.
في هذا السياق، تأتي دعوة “أمهات فرنسا” إلى مسيرة أمام قصر الإليزيه في 15 يونيو، ليس فقط كموقف إنساني، بل كفعل مقاومة مدني ضد التواطؤ السياسي، وضد التخاذل الأخلاقي الذي يحيط بالمجتمع الدولي. المسيرة تسعى لإحداث اختراق سياسي على مستوى القرار الفرنسي، من خلال الضغط على الرئيس ماكرون لاتخاذ موقف أكثر جرأة، يشمل فرض عقوبات على إسرائيل، استنادًا إلى قرارات محكمة العدل الدولية واتفاقية منع الإبادة الجماعية.
تحرك دولي لحماية الأطفال
هذا النوع من التحرك الشعبي يعيد رسم خريطة التأثير في السياسات الغربية. ففي الوقت الذي تراوغ فيه الحكومات وتتذرع بـ”التعقيدات الجيوسياسية”، تتحرك الشعوب لتقول إن ما يجري في غزة تجاوز كل حدود الاحتمال، وأن حماية الأطفال لا تحتاج إلى موافقة من واشنطن أو إجماع في مجلس الأمن، بل إلى ضمير حي. وإذا كانت الحكومات لا تستجيب لنداءات المنظمات، فقد تستجيب للغضب المتصاعد في شوارع باريس، لندن، مدريد وبرلين.
الأهمية الرمزية لمسيرة الأمهات في باريس تكمن في أنها تصدر عن فئة تعتبر الأكثر حساسية لمعاناة الأطفال: الأمهات. وهنا، يصبح خطاب التضامن مضاعف القوة، لأنه لا يصدر من منظمات أو أحزاب بل من قلوب أمهات ترى في كل طفل فلسطيني ابنها، وفي كل أم ثكلى مرآة لألمها الخاص. حضور شخصيات مثل ريما حسن، عضو البرلمان الأوروبي، يزيد من ثقل هذا الحدث ويُدخل البعد الحقوقي والبرلماني إلى الشارع، كخطوة تقاطع بين الضغط الشعبي والمؤسساتي.
تزايد التضامن الأوروبي مع غزة
أما عن تأثير هذا التضامن في مسار وقف إطلاق النار، فهو غير مباشر لكنه حاسم. إذ إن تصاعد المظاهرات والاحتجاجات في عواصم غربية كبرى يضع قادة هذه الدول في مواجهة مع ناخبيهم، ويحدّ من قدرتهم على تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل. التضامن الأوروبي المتزايد مع غزة، وخصوصًا عندما يتخذ شكلًا ميدانيًا ضاغطًا كالمسيرة المرتقبة، يشكل مادة ضغط على باريس لتعديل موقفها، أو على الأقل كسر حالة الصمت أو التردد، ما قد يُسرّع في بلورة مبادرة دبلوماسية جديدة نحو وقف إطلاق النار، مدعومة بقاعدة شعبية حقيقية.
دماء الأطفال في غزة لم تعد تلطّخ فقط أيدي من يضغط الزناد، بل أيضًا من يصمت أو يبرر أو يكتفي بالإدانة اللفظية. والتضامن الفرنسي، بقيادة الأمهات، هو تذكير مؤلم بأن الضمير الإنساني لم يمت، وأنه حتى في قلب أوروبا، ما زال هناك من يصرخ: “كفى”. ومهما كانت نتائج هذه المسيرة، فإنها ستبقى شاهدًا على لحظة فارقة، تُكتب فيها إنسانية الشعوب في وجه تواطؤ الدول.