في صباح خريفي مثقل بالدموع، وصل الشاب إبراهيم أبو شرف إلى مستشفى شهداء الأقصى، وجهه شاحب، وملامحه لا تزال تحمل صدمة السجن. لم يكن عمره يتجاوز الـ24، لكن عينيه أظهرت رجلاً شاخ في زنزانة، لا تعرف الشمس، ولا تحترم إنسانية الجسد. حين رأى والدته لأول مرة بعد شهور من الغياب القسري، لم ينطق. سقطت دمعة صامتة من خده، واحتضنها كما لو كان يحتضن الحياة ذاتها، بعد أن تعلّم داخل المعتقل أن الاحتضان امتياز.
تعذيب ممنهج
قال بصوت مكسور للطبيب الذي فحصه: “كانوا يرمون الطعام لنا على الأرض، كأننا كلاب… مرات نأكله ومرات نترجّى الماء عشان نبلع ريقنا، بس ما فيه… كانوا يعاقبونا بالتجويع، وإذا سألنا عن التهمة، يبدأ الضرب”.
سمية، شقيقة المعتقل المحرر حسام الدلو، روت ما حصل لأخيها وكأنها تتحدث عن كائن محطم، لا عن إنسان. قالت: “حسام خرج بجسد، بس روحه ظلت هناك… أحيانًا بيصرخ بالليل، بيحلم إنهم رجعوه عالزنزانة، بيصحى وهو بيضرب على صدره وبيتنفس بصعوبة. لما فحصوه، قالوا فيه عنده كسور قديمة، ما تعالجت، اتعرض لتعذيب مستمر… وكان مربوط بإيده الحديد على مدار أيام”.
شهادات مؤلمة
أما الحاج أبو خليل، والد الأسير المحرر يوسف، فجلس عند باب المستشفى، عيونه تبحث عن كلمات تُعبّر عمّا رأى، لكنه كان صامتًا طويلًا. ثم قال أخيرًا: “ابني دخل السجن شاب، وطلع مكسور الظهر… جلد ظهره عليه آثار حروق، قالولي علقوه مقلوب، وضربوه بأسلاك كهربا. شو تهمة يوسف؟ كان بيدور على أهله تحت الركام”.
آمنة، زوجة المعتقل المفرج عنه بلال السالمي، استقبلت زوجها وسط صدمة: “ما عرفته… نحفان، جسمه هزيل، شعره محلوق بالكامل، وفيه جروح براسه. قالولي إنهم كانوا يربطوه لساعات طويلة، وأي حركة يضربوه على رجليه. ما بعرف كيف عاش… كيف رجع؟ هذا مش بلال اللي راح، هذا شبحه”.
الأسير المحرر أنس الفرا، كان يرتجف وهو يسرد شهادته لفريق حقوقي داخل المستشفى، يمد يديه المرتجفتين ويقول:
“ضربوني على رأسي، نزعوا ملابسي، وخلوني عاري لساعات طويلة. بعتوا عليّ كلب بوليسي، نهش فخدي، وبعدها تركوني أنزف بدون علاج. كانوا يقولوا لي: أنت مش بني آدم، أنت مشروع دفن”.
ذكريات مؤلمة
في إحدى الزنزانات، أخبر أحد المحررين، لم يذكر اسمه، عن “لعبة” يمارسها السجّانون: “يطفوا النور ويبدأوا يصارخوا بأصوات أطفال يبكوا، ولما نسأل وينهم؟ يضحكوا ويقولوا: هدول أولادكم، اسكتوا. كنت أحس روحي بتتفجر من القهر”.
كل قصة من هذه القصص ليست حالة فردية، بل شهادة على نظام متكامل من الانتهاك والتجريد من الكرامة، لا يفرق بين العمر أو الحالة أو التهمة، لأن التهمة دائمًا جاهزة: أنك فلسطيني من غزة.
وفي لحظة الإفراج، لم يخرج الأسرى إلى الحرية فقط، بل خرجوا حاملين على أجسادهم سجلاً من الجراح، وعلى أرواحهم ذاكرة لا تُشفى بسهولة. وما بين حضن الأمهات، وصراخ الأطفال في المستشفيات، يظل السؤال معلقًا في هواء غزة:
هل يُغفر لمن يرى كل هذا… ثم يختار الصمت؟