في صباح خانق من حزيران، وبين أصوات القصف البعيد وأنين الجوع الصامت، استيقظ سكان حي صغير في غزة على صرخة، لم تكن صرخة قذيفة، بل بكاء رضيع… طفل حديث الولادة، ملفوف بقطعة قماش خفيفة لا تقيه برد الفجر ولا قسوة الحياة، موضوعٌ بعناية على درج عمارة، وكأنه أمانة تبحث عن من ينجو بها.
بجانبه، وُجدت ورقة، لا يزيد حجمها عن راحة اليد، كُتبت بخط مرتجف لكنه صادق حتى العظم: “زوجي أسير، ومش قادرة أطعميه، وما بنزل إلي حليب طبيعي، ومش قادرة أشتري حليب صناعي.”
صرخة أم
هذه الكلمات ليست مجرد اعتراف بالعجز، بل صرخة أم تمزقت بين غريزتها وقدرتها. أمّ لم تهرب من أمومتها، بل أُجبرت على خيانتها. ليس لأنها لا تريد، بل لأنها لا تملك ما يقدّم لطفلها الحياة.
هي واحدة من آلاف الأمهات في غزة، اللواتي يحلمن بزجاجة حليب، لا بلعبة. بحفاضة نظيفة، لا بسرير ناعم. في قطاع غارق في الحصار، حيث المساعدات الإنسانية لا تصل، وإن وصلت، لا تكفي، تصير الأمومة عبئًا ثقيلًا يكسِر القلب قبل الجسد.
من هي هذه الأم؟ لا أحد يعرف اسمها، لكن كل من قرأ الورقة شعر أنه يعرفها… لأنها تمثل كل أم غزية وضعت طفلها على صدرها وهي لا تملك غير الدموع.
تضحية الأمومة بدل الموت جوعا
الطفل، الذي لم يُمنح حتى فرصة أن يُسمّى، نُقل إلى المستشفى. الأطباء قالوا إن حالته مستقرة، لكنه ما زال يبحث عن حضن، عن صدر، عن رائحة أمه التي فُرض عليها أن تختفي كي يُتاح له أن يعيش.
في ظروف أخرى، كان من المفترض أن يُحتفى بهذا الوليد. أن يُغسّل برفق، وتُلبس له الثياب البيضاء، وتُعلَّق الزينة على الباب. لكن في غزة اليوم، الولادة ليست فرحًا، بل نجاة مؤقتة، وأحيانًا، عبور مؤلم نحو المجهول.
الواقع أن الطفل لم يُترك لأنه غير مرغوب فيه، بل لأنه مرغوب جدًا لدرجة أن أمّه آثرت أن يعيش بعيدًا عنها، بدلًا من أن يموت بين يديها جوعًا. هذا هو الحصار، وهذه هي المجاعة. لا تقتل فقط من لا يجد ما يأكله، بل من لا يستطيع أن يمنح الحياة لأغلى من في قلبه.
صمت العالم
وفي الخلفية، لا تزال الأمم المتحدة تحذر. لا تزال “الأونروا” تصرخ أن المساعدات لا تدخل، أن الأطفال يموتون ببطء، أن الأمهات يُجبرن على أصعب القرارات، لكن العالم يغط في صمته المريح.
طفل بلا اسم، وأم بلا قدرة، ومجتمع بلا حول… هذا ليس مشهدًا من رواية حزينة، هذه غزة، وهذه الحقيقة، وهذا سؤال موجّه للعالم: كم من الأطفال يجب أن يُتركوا على الدرج، قبل أن تتحرك الضمائر؟