الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالضفة الغربية لم تعد مجرّد أرقام تُسجل في تقارير الإحصاء، بل تحوّلت إلى معاناة يومية تمسّ أدق تفاصيل الحياة الفلسطينية. فالارتفاع الحاد في أسعار المنتج، والذي بلغ 12.96% في نيسان وحده، كشف هشاشة المنظومة الاقتصادية أمام سلسلة من الضربات المركّبة، على رأسها الإجراءات القمعية والسياسات الاستنزافية التي تنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الاقتصاد الفلسطيني، بشكل مباشر وغير مباشر.
حصار اقتصادي داخلي
المواطن الفلسطيني بات يُعاني من حصار اقتصادي داخلي، ترافقه موجة غلاء معيشة غير مسبوقة، لا تُفسَّر وفق قواعد العرض والطلب المعتادة. فبينما تغيب العوامل العالمية التقليدية التي قد تُبرر هذا الصعود في الأسعار، يشير الواقع إلى أن السياسات الإسرائيلية تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل هذا الضغط، من خلال استهداف مباشر للبنية الإنتاجية، وتعطيل حركة العمّال، والتضييق على المزارعين، وفتح السوق الفلسطينية أمام التسريب الإسرائيلي، سواء بالإنتاج أو بالتحكم في القنوات التجارية.
في ظل تراجع حركة العمل نتيجة المنع الإسرائيلي لآلاف العمّال من الدخول إلى الداخل المحتل، يجد أرباب الأسر أنفسهم بلا دخل منتظم، في وقت ترتفع فيه الأسعار بنسبة تتجاوز قدرتهم على التكيف أو التحمّل. مثال صارخ على ذلك هو ارتفاع سعر كيلو البندورة من شيكل واحد إلى 10 شواكل، ما يعكس اختلالًا واضحًا في التوازن الغذائي والمعيشي. مثل هذا الارتفاع لا يمكن تفسيره دون النظر إلى تدفق الإنتاج الزراعي الفلسطيني للسوق الإسرائيلية، ما يؤدي إلى ندرة العرض محليًا وارتفاع السعر بشكل غير منطقي.
المواطنون بين كماشة سياسات الاحتلال
الواقع الذي فرضته سلطات الاحتلال لا يقتصر على المصادرات والسيطرة الميدانية، بل يمتد إلى اختناق اقتصادي ممنهج من خلال الاقتطاع الجائر لأموال المقاصة، التي تمثل شريان الحياة الأساسي للموازنة الفلسطينية. ومع تعطيل صرف الرواتب أو تأخيرها، وغياب الدعم الاجتماعي الحقيقي، أصبح المواطن يواجه السوق وحيدًا، مكشوف الظهر، يواجه احتكار التجار، وتجاهل السياسات الرسمية، وتقلبات السياسة والاقتصاد في الإقليم والعالم.
الارتفاعات المهولة في أسعار السلع لا تأتي في سياق التضخم العالمي وحده، بل تنبع من تشوهات بنيوية في الاقتصاد الفلسطيني، أبرزها التبعية شبه الكاملة للاقتصاد الإسرائيلي، وغياب أدوات الحماية الفعلية للمستهلك. وعليه، فإن المواطن بات عالقًا بين فكي كماشة: سياسات الاحتلال من جهة، وسوق داخلي محتكر وغير منضبط من جهة أخرى.
الضغط الأكبر يقع على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، التي أصبحت غير قادرة على شراء احتياجاتها الأساسية. وبدل أن تكون الأعياد والمناسبات مواسم للفرح والتواصل الاجتماعي، تحولت إلى عبء إضافي، يزيد من شعور العجز والتهميش. الأرقام الرسمية تؤكد أن معدلات الإنفاق على السلع الأساسية في انخفاض مستمر، ما يعني أن الفلسطينيين باتوا يلجؤون إلى تقليص كميات الشراء أو التخلي عن بعض المواد الغذائية الضرورية.
خنق الصمود وإفراغ الأرض من ساكنيها
الاحتلال لا يكتفي بإغلاق الحواجز أو مداهمة البيوت، بل يمارس تطويقًا اقتصاديًا خفيًا ومتصاعدًا، يسعى من خلاله إلى خنق صمود الناس وإفراغ الأرض من ساكنيها عبر وسائل غير عسكرية، لكنها لا تقلّ عنفًا في تأثيرها. وبغياب استراتيجيات وطنية حقيقية لمواجهة هذه الهجمة المركّبة، يجد المواطن نفسه يواجه هذه الحرب الاقتصادية وحده، بموارد محدودة، وأفق غير واضح.
الأزمة لم تعد تحتمل المسكنات. الحاجة اليوم ماسة لتدخل سياساتي جاد، يبدأ من فرض الرقابة على السوق، مرورًا بدعم القطاعات الحيوية، وانتهاءً بتعزيز الصمود الاقتصادي في وجه الاحتلال. فالمعركة على الأرض لم تعد بالسلاح فقط، بل بالقدرة على البقاء وسط واقع خانق يتفنّن الاحتلال في تعقيده يومًا بعد يوم.