في خضم الحرب المدمرة على قطاع غزة وتصاعد العدوان الشامل في الضفة الغربية، تتكشف صورة قاتمة للانتهاكات المتواصلة ضد الفلسطينيين، لا سيما في سياق حملات الاعتقال الواسعة التي تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع، بما في ذلك الأطفال والنساء والأسرى المحررين. إن الأرقام الصادرة عن مؤسسات الأسرى، التي تشير إلى نحو 17500 حالة اعتقال في الضفة منذ بدء الحرب، منهم 545 امرأة و1400 طفل، تُعد مؤشرًا صادمًا على حجم الانتهاكات المنهجية التي تتجاوز مفهوم الاعتقال القانوني لتصل إلى مستوى العقاب الجماعي الممنهج.
كسر إرادة الصمود الفلسطيني
إن اعتقال الأسرى المحررين، رغم حماية القانون الدولي لهم، وحملات الاعتقال العشوائية، يشكلان دلالة خطيرة على نية الاحتلال في كسر إرادة الصمود الفلسطيني وقمع أي شكل من أشكال المقاومة. فاستشهاد أسرى محررين، مثل وائل جاغوب الذي أمضى 23 عامًا في السجون وأُعيد اعتقاله إداريًا بعد الإفراج عنه بفترة وجيزة، يبعث برسالة واضحة بأن التحرر من السجن لا يعني نهاية الملاحقة.
هذه السياسة لا تستهدف الأفراد فحسب، بل تسعى إلى زرع الخوف واليأس في نفوس المجتمع بأكمله، وإعاقة أي محاولة لاستعادة الحياة الطبيعية بعد تجربة الاعتقال. كما أن سرقة أموال الأسرى المحررين وممتلكاتهم، وتحديداً السيارات تحت مسمى “المصادرة”، رغم أنها سياسة ليست بالجديدة، إلا أن ترسيخها بشكل ممنهج في هذه الفترة يهدف إلى تدمير أي مقومات للحياة الكريمة لهؤلاء الأفراد وعائلاتهم، وتعميق معاناتهم الاقتصادية والنفسية.
الاحتلال يتبع سياسة الانتقام
تُشير حملات الاعتقال العشوائية التي يرافقها تحقيق ميداني وتنكيل واعتداءات بالضرب المبرح، واستخدام أفراد العائلات كرهائن (خاصة النساء والأطفال)، إلى غياب تام لأدنى معايير القانون الدولي وحقوق الإنسان. هذه الممارسات، التي تتصاعد في ظل العدوان المتواصل على مناطق مثل جنين وطولكرم، لا تهدف فقط إلى اعتقال المشتبه بهم، بل إلى إرهاب المجتمعات المحلية بأكملها. إن تدمير عشرات المنازل، والتصعيد غير المسبوق لعدوان المستوطنين الذي يساهم في تصاعد حملات الاعتقال، يكشف عن استراتيجية واسعة لتجريد الفلسطينيين من مقومات وجودهم، ودفعهم نحو حالة من اليأس والانهيار.
أما جريمة الاعتقال الإداري، التي شهدت تصاعدًا غير مسبوق بعد السابع من أكتوبر ووصل عدد المعتقلين بموجبها إلى 3562، فهي تشكل الوجه الأكثر فظاعة لهذه الانتهاكات. فإصدار مئات أوامر الاعتقال الإداري، التي تطال أسيرات وأطفالًا، تحت ذريعة “ملف سري” لا يمثل فقط انتهاكًا صارخًا لأبسط مبادئ العدالة، بل هو أداة قمعية تهدف إلى سجن الأفراد لأجل غير مسمى دون تهمة أو محاكمة. قضية اعتقال سناء سلامة دقة، زوجة الشهيد وليد دقة، بعد حملة تحريض ممنهجة، تعكس بوضوح الطبيعة الانتقامية والسياسية لهذه الاعتقالات التي تستهدف عائلات الأسرى والشهداء، وتؤكد أن الاحتلال لا يتورع عن ملاحقتهم والتضييق عليهم حتى بعد استشهاد ذويهم.
تعذيب ممنهج
داخل السجون ومعسكرات الاحتلال، يتواصل ارتكاب جرائم منهجية تشمل التعذيب والتجويع والجرائم الطبية والاعتداءات الوحشية، إضافة إلى عمليات العزل الجماعية غير المسبوقة. إن ارتفاع عدد الشهداء بين الأسرى والمعتقلين إلى 71 منذ بدء الحرب، والإعلان عن استشهاد خمسة منهم في مايو، غالبًا تحت التعذيب ونتيجة للإهمال الطبي والتجويع، يؤكد أن ما يجري في السجون هو امتداد للإبادة الجماعية. الشهادات المروعة للأسرى الذين أُتيحت لهم زيارة عكست انتشار أمراض مثل الجرب دون علاج، واستمرار عمليات الاقتحام والقمع الوحشي، بما في ذلك استخدام الكلاب البوليسية والغاز.
إن الظروف المشددة التي يواجهها معتقلو غزة في أقسام تحت الأرض، والخوف الذي يخيم على شهاداتهم، يسلط الضوء على مستوى الرعب والتعذيب الممنهج الذي يتعرضون له. استهداف قيادات الحركة الأسيرة بالتعذيب الممنهج والاعتداءات المتكررة في العزل الانفرادي، بما في ذلك استخدام الكلاب البوليسية والهراوات، يؤكد أن الاحتلال يسعى إلى تصفية هذه القيادات وإضعاف الحركة الأسيرة، في انتهاك صارخ لكل الأعراف والقوانين الإنسانية.