يشكل إعلان مجموعة من ضباط وجنود الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي رفضهم المشاركة في العمليات الجارية في قطاع غزة تطورًا غير مألوف في تاريخ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويكشف عن أزمة داخلية متفاقمة على المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل، وسط استمرار الحرب الممتدة في غزة منذ أكثر من 20 شهرًا.
الحرب تقتل المدنيين
هذا التمرد العلني من قبل 41 ضابطًا وجنديًا احتياطيًا، معظمهم يُعتقد أنهم ينتمون إلى الوحدة 8200، وحدة النخبة في الاستخبارات العسكرية، يحمل دلالات بالغة الأهمية. فمن جهة، يعكس هذا الرفض تفككًا جزئيًا في الإجماع المؤسسي الذي طالما ميز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، خصوصًا في أوقات الحرب. ومن جهة أخرى، يشير إلى تصدع العلاقة بين القيادة السياسية والقاعدة الأمنية، بعدما اتهم الموقعون على الرسالة حكومة بنيامين نتنياهو بالسعي إلى إدامة حرب عبثية لا تخدم سوى بقائه السياسي واسترضاء شركائه اليمينيين المتطرفين.
الموقعون على الخطاب، الذي وُجّه مباشرة إلى نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير، أكدوا أن الأوامر التي تُصدرها الحكومة “غير قانونية بشكل واضح”، ورفضوا الاستمرار في عمليات “تفتقر إلى الأخلاق وتؤدي إلى قتل المدنيين”، ما يضع الحكومة في مرمى الاتهام بانتهاك القوانين الدولية، ويشكك في مشروعية الحرب نفسها من داخل المؤسسة المنفذة لها.
فشل استعادة الرهائن
الأهمية الخاصة لهذه الرسالة تكمن في هوية مرسليها: ضباط استخبارات وليس جنودًا ميدانيين. هؤلاء الأفراد هم جزء أساسي من دوائر اتخاذ القرار العملياتي، فهم يحددون الأهداف ويقودون تدفق المعلومات التي تستند إليها العمليات العسكرية، وبالتالي فإن رفضهم المشاركة لا يُعد مجرد موقف رمزي، بل ضربة فكرية وفنية لأركان الحرب القائمة، بل وربما تهديد مباشر لقدرة الجيش على إدارة العمليات بنفس الكفاءة السابقة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه الرسالة لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، من تصاعد الاحتجاجات الداخلية، واتساع دائرة الانتقادات الموجهة لحكومة نتنياهو، إلى جانب تراجع الدعم الشعبي لاستمرار الحرب، خاصة بعد فشل الحكومة في استعادة جميع الرهائن، وتكثيف الاتهامات باستخدامهم كورقة سياسية.
الحرب حكم بالإعدام
أكثر ما يلفت النظر في الخطاب أن الضباط اتهموا القيادة السياسية بالتسبب المباشر في مقتل الرهائن من خلال قرارات عسكرية خاطئة، خاصة بعد إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار في مارس الماضي، في خطوة وصفوها بأنها بمثابة “حكم بالإعدام” عليهم. هذا الاتهام يعمق الفجوة بين العسكر والسياسيين، وينذر بتصدعات أعمق داخل الجيش، قد تؤثر على تماسكه، وعلى قدرته في تنفيذ المهام، لا سيما في ظل ما تشير إليه التقارير من ارتفاع أعداد الرافضين للخدمة في وحدات معينة.
إن تعبير هؤلاء الضباط عن رفضهم العلني والمباشر يعكس تحولا نوعيًا في نمط العلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل، خاصة أن الوحدة 8200 هي أحد أكثر تشكيلات الجيش سرية وتأثيرًا، وتحظى تقليديًا بثقة مطلقة من قبل القيادات العليا. وعليه، فإن هذا التحرك قد يشجع آخرين على اتخاذ مواقف مشابهة، خصوصًا مع تنامي السخط داخل أوساط العسكريين إزاء استمرار الحرب، وما يرونه من استهتار سياسي بأرواح المدنيين والجنود والرهائن على حد سواء.
تآكل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
في المجمل، فإن تمرد ضباط الاستخبارات على قرارات الحرب يشكل تطورًا نوعيًا في مسار الأزمة الإسرائيلية الحالية، ويضع علامات استفهام خطيرة حول تماسك المؤسسة العسكرية، وقدرتها على تنفيذ استراتيجية طويلة الأمد، فضلًا عن كونه مؤشرًا على اتساع دائرة الرفض الداخلي التي قد تتحول من مجرد احتجاجات إلى أزمة بنيوية تهدد شرعية استمرار الحرب نفسها.