في خضم تراجع النفوذ الروسي في غرب إفريقيا، تكشفت تفاصيل صادمة عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها مجموعة فاغنر شبه العسكرية خلال وجودها في مالي. تحقيق مشترك أجرته صحيفة لوموند الفرنسية ومنظمة Forbidden Stories، بالتعاون مع عدد من المؤسسات الإعلامية، سلّط الضوء على حجم الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، وخصوصًا من الأقليات الإثنية المهمّشة، في الأشهر التي سبقت انسحاب فاغنر من البلاد.
التحقيق، المدعوم بشهادات موثّقة ووثائق مسرّبة، يضع الخطاب الرسمي الروسي والمالي تحت المجهر، كاشفًا عن شبكة من التواطؤ والتكتم حوّلت معسكرات الجيش المالي إلى مراكز احتجاز سرية وإلى ساحات للتعذيب والانتهاك الممنهج.
استهداف إثني ممنهج
أبرز ما يكشفه التحقيق هو الطبيعة الانتقائية والموجّهة للانتهاكات، حيث ركّزت قوات فاغنر في عملياتها على أفراد من قبائل الفولاني والطوارق، في استجابة ضمنية لخطاب رسمي يصوّر هذه الجماعات كمخزون بشري للجماعات الجهادية أو الحركات الانفصالية. وبحسب المعطيات، لم تكن الاعتقالات مبنية على أي أساس قانوني، بل على الانتماء الإثني والشبهات العامة.
في معسكرات الجيش المالي، التي تديرها وتوجهها عناصر من فاغنر، جرى احتجاز العشرات من المدنيين في ظروف مهينة. وتحدث الشهود عن أساليب تعذيب تعود إلى أبشع فصول التاريخ: خنق بالماء، صدمات كهربائية، واعتداءات جسدية أفضت إلى الموت في عدد من الحالات.
شهادة “نومي”: من الجحيم إلى المنفى
أحد الشهود البارزين الذين وردت شهاداتهم في التحقيق هو “نومي”، وهو تاجر خمسيني من قبيلة الفولاني، اعتُقل في قريته “تولى” بتاريخ 31 يوليو/تموز 2024. خلال الأيام الأربعة التي قضاها في الاحتجاز، تعرض نومي لتعذيب وحشي: غُمر رأسه في الماء حتى الاختناق، حُرق جسده بأدوات معدنية، وشهد مذبحة مباشرة لخمسة رجال ذُبحوا أمامه على يد عناصر فاغنر.
بعد إطلاق سراحه، لم يعد نومي قادرا على العودة إلى حياته الطبيعية. وبسبب الخوف من استهداف جديد، فرّ إلى موريتانيا، حيث يعيش الآن لاجئًا، مثله مثل عشرات الآلاف من الماليين الذين اختاروا المنفى على احتمال الموت.
مأزق العدالة وسط صمت رسمي
السلطات المالية، التي تحالفت بشكل وثيق مع موسكو في مواجهة النفوذ الفرنسي والتدخلات الغربية، لم تصدر أي رد رسمي حتى الآن على ما ورد في التحقيق. ووسط هذا الصمت، تبرز مخاوف من طيّ صفحة الجرائم دون مساءلة، خصوصًا في ظل انهيار شبه كامل لمؤسسات الرقابة المستقلة في البلاد.
ويحذّر المراقبون من أن تجاهل هذه الانتهاكات يهدد بإعادة إنتاج نماذج مشابهة في مناطق أخرى من إفريقيا، حيث يتزايد اعتماد الحكومات الهشة على مجموعات أمنية خاصة لخوض معارك داخلية بذرائع مكافحة الإرهاب أو فرض النظام.
روسيا وفاغنر: نفوذ بقوة السلاح
تأتي هذه الاتهامات في وقت تحاول فيه روسيا تعزيز وجودها في إفريقيا عبر وكلاء غير نظاميين، مثل فاغنر، التي تعمل تحت مظلة “الدعم الأمني” في عدد من الدول الإفريقية. لكن هذا الدعم غالبًا ما يتحول إلى شكل من أشكال الاحتلال العسكري المقنّع، حيث تُفرض الأجندات عبر السلاح، ويتم تجاوز القانون الدولي تحت ستار التعاون العسكري.
وبينما تنكر موسكو أي تورط مباشر في هذه الجرائم، يسلّط التقرير الضوء على تورط عناصر فاغنر بصفقات مالية وصفقات نفوذ مع النخب السياسية في مالي، ما يزيد من تعقيد أي محاولة لمساءلتهم قضائيًا.