يمثّل الاستهداف المباشر والمتكرر للمدنيين في قطاع غزة، لا سيما أولئك المتجمعين حول مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، انعكاسًا عميقًا لواقع مأساوي تجاوز حدود الحرب التقليدية إلى مستوى أكثر تعقيدًا ودموية، إذ يتقاطع فيه التجويع مع التصفية الجسدية، ويُدار بمنهجية لا تترك مجالًا للشك في أن ما يحدث ليس مجرد “أضرار جانبية” في نزاع مسلح، بل هو جزء من سياسة عقاب جماعي متعمدة وممنهجة.
مصائد موت مكشوفة
الوصول إلى مشفى الصليب الأحمر في مواصي خان يونس بأكثر من 20 شهيدًا، و200 إصابة بينها ما لا يقل عن 50 حالة خطرة منذ فجر اليوم، يكشف أن نقاط توزيع الإغاثة لم تعد ملاذًا للناجين، بل تحولت إلى مصائد موت مكشوفة. إن مشهد المواطنين المتدافعين طلبًا للطعام وقد غُدر بهم تحت وابل الرصاص يُجسد ببشاعة أن المعاناة في غزة لم تعد مقتصرة على الحصار أو الفقر أو الدمار، بل امتدت لتطال حتى فرصة النجاة نفسها.
ورغم أن هذه الحوادث تكررت في الأشهر الماضية، فإن خطورتها تتضاعف اليوم لأسباب متعددة. أولها أن إطلاق النار لا يطال المدنيين فحسب، بل يمتد إلى المرافق الطبية نفسها، كما حدث مع مستشفى الصليب الأحمر الميداني الذي تعرّض لإطلاق نار مباشر، في تحدٍ فجّ لكل القوانين الدولية التي تحظر استهداف المرافق الصحية والطواقم الطبية. إن هذا الاعتداء يشكل، وفق كل المعايير، جريمة حرب مكتملة الأركان، ويؤكد على سياسة مبيتة لتقويض أي بنية إنسانية متبقية في القطاع المنهك.
المنظومة الصحية في غزة تنهار
وفي الوقت الذي تدين فيه وزارة الصحة هذه الجرائم، وتطالب بإعادة تشغيل مستشفى غزة الأوروبي نتيجة الاكتظاظ الحاد في المشافي المتبقية، فإن مطلبها لا يُعبر فقط عن حاجة طبية تقنية، بل هو صرخة في وجه العالم بأن المنظومة الصحية في غزة تنهار بالكامل، وأن الغرق الجماعي في هذه الكارثة الصحية لم يعد وشيكًا، بل هو جارٍ بالفعل.
السؤال الأهم في هذا السياق: لماذا تستهدف إسرائيل نقاط توزيع المساعدات؟ وما الرسالة من إطلاق النار على المدنيين الجائعين؟ إن الإجابة، بكل وضوح، أن الهدف يتجاوز إخضاع المقاومة أو توجيه ضربات عسكرية، ليصل إلى إخضاع الإرادة الشعبية الفلسطينية بأكملها، وتجريد المواطن الغزي من أي شعور بالأمان حتى في أكثر لحظاته هشاشة وإنسانية. فالموت لم يعد يأتي في ساحات المواجهة، بل عند أبواب المخابز، وفي صفوف الانتظار للحصول على كيس طحين، وفي أسِرّة العلاج داخل المستشفيات.
إن استهداف المدنيين في غزة لم يعد “تكتيكًا”، بل أصبح أداة استراتيجية ترمي إلى تفكيك البنية المجتمعية بالكامل، وتجريد الفلسطينيين من أبسط مقومات الصمود: الغذاء، العلاج، الكرامة، والأمل. هذا النوع من الضربات لا ينتج عنه مجرد شهداء وجرحى، بل يخلّف وراءه مجتمعًا محطمًا نفسيًا ومعنويًا، يتلقى رسائل يومية بأن الحياة في غزة لا تستحق أن تُعاش، وأن الموت أكثر انتظامًا من أي مساعدة إنسانية.
الاستهداف المباشر للمدنيين
في ظل هذه الدلالات، فإن المجتمع الدولي، بصمته وتردده، يُشارك في الجريمة، بشكل غير مباشر، من خلال الامتناع عن الضغط الفعلي لوقف هذا النمط من الاستهداف، والاكتفاء بتصريحات فضفاضة لا توازي حجم الجريمة المرتكبة. أما المنظمات الإنسانية، فعليها اليوم واجب عاجل لإعادة النظر في آليات توزيع المساعدات، بحيث لا تتحول نقاط الإغاثة إلى أفخاخ موت تحت رقابة طائرات الاحتلال.
إن الاستهداف المباشر للمدنيين في غزة، في هذه المرحلة، ليس مجرد انتهاك صارخ للقانون الدولي، بل هو كشف فاضح للخلل الأخلاقي في النظام العالمي الذي يسمح بمرور هذا النوع من الجرائم بلا محاسبة. والأخطر من ذلك، أنه يحمل في طياته رسالة واضحة: الجوع لا يحمي أحدًا، ولا حتى البراءة في طلب العيش.