تأتي حملات الاعتقال الواسعة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية في إطار سياسة ممنهجة تستهدف تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وكسر أي إمكانية لبلورة حالة مقاومة منظمة، أو حتى منع تصاعد المظاهر الفردية للاحتجاج أو التعبير عن الرأي. الاعتقالات التي طالت خلال الساعات الأخيرة أكثر من 30 مواطناً، بينهم أطفال وأسرى محررون، تمثل امتداداً واضحاً لنهج تصعيدي لطالما استخدمه الاحتلال كأداة مركزية في إحكام السيطرة الأمنية والنفسية على المجتمع الفلسطيني.
تشتيت بؤر المقاومة
اللافت في هذه الحملة الأخيرة هو التوقيت والسياق؛ فالتصعيد الإسرائيلي في الضفة يتصاعد بالتزامن مع الحرب المفتوحة في غزة، والتوتر الإقليمي المتصاعد على خلفية المواجهة مع إيران. هذا التقاطع يعكس محاولة إسرائيلية لتشتيت بؤر المقاومة وتطويقها مبكراً، من خلال استهداف الضفة الغربية كخاصرة أمنية رخوة قد تشتعل في أي لحظة. ويتضح من طبيعة الاعتقالات أنها لم تكن محصورة بنشاطات ميدانية، بل امتدت إلى مجرد “محتوى رقمي” على الهواتف المحمولة، الأمر الذي يعكس مدى التوتر الأمني الإسرائيلي من أي تعبير محتمل عن التضامن أو التحريض.
يُضاف إلى ذلك أن الاعتقالات لا تتم بمعزل عن سياسة أكثر اتساعاً، تشمل التحقيقات الميدانية العنيفة، تحويل المنازل إلى ثكنات عسكرية، وعمليات تدمير البنية التحتية، بالإضافة إلى تزايد حالات الإعدام الميداني والاغتيالات. هذه الأفعال، بمجموعها، تُقرأ ضمن استراتيجية ترهيب وتفتيت مجتمعي، تهدف إلى تقويض أي بيئة حاضنة للمقاومة أو حتى لمجرد التماسك الاجتماعي في وجه الاحتلال.
تدمير الاستقرار الأسري
الاحتلال يدرك جيداً أن الضفة الغربية ليست فقط مجالاً جغرافياً، بل فضاءً اجتماعياً وسياسياً مليئاً بالتحولات والإمكانات، وتزايد المظاهر الشبابية للمقاومة الفردية. ولذلك، فإن الاعتقالات المكثفة ليست فقط ردعاً مباشراً، بل أيضاً رسالة أمنية تتجاوز المعتقلين أنفسهم لتطال مجمل المجتمع الفلسطيني، بأن أي محاولة للتحرك أو التضامن ستكون مكلفة وملاحقة.
على الصعيد الإنساني، فإن هذه السياسة تفرز آثاراً خطيرة: تدمير الاستقرار الأسري، نشر الرعب بين الأطفال والعائلات، وتكريس مناخ دائم من الخوف والتهديد. ومن زاوية القانون الدولي، فإن الممارسات الإسرائيلية في الضفة تشكل انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، لا سيما عندما تشمل اعتقال القُصّر، والتحقيقات دون حضور محامين، واستخدام القوة المفرطة.
حرب نفسية واجتماعية وسياسية
حملات الاعتقال العشوائي في الضفة الغربية ليست مجرد إجراءات أمنية، بل أدوات حرب نفسية واجتماعية وسياسية تُستخدم بانتظام لإبقاء المجتمع الفلسطيني في حالة انكسار دائم. وهي، في هذا السياق، جزء لا يتجزأ من حرب الإبادة الأوسع التي يخوضها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو في الضفة أو في القدس، سعياً لمحو كل أشكال الحياة المقاومة، وتقويض أي إمكانية لبلورة مشروع وطني فلسطيني مستقل.