أطلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمبادرة دبلوماسية تعكس طموحًا استراتيجيًا متجددًا لموسكو للعب دور محوري في إعادة ضبط إيقاع العلاقات الإقليمية، وتكريس موقعها كوسيط مسؤول يسعى لاحتواء الصراعات بدلًا من تأجيجها. عرض الوساطة الذي قدّمه الكرملين لا يأتي في فراغ، بل يعكس فهمًا عميقًا لتشابك المصالح في المنطقة، ورغبة واضحة في تقديم روسيا كطرف قادر على التحدث إلى جميع الفرقاء.
في عالم أنهكته الحروب والانقسامات، تبرز موسكو اليوم كلاعب نزيه، يمتلك علاقات مستقرة مع القوى المتنافسة، ويقدّم بديلًا واقعيًا للوساطات الغربية التي أثبتت في أكثر من مناسبة قصورها، أو ارتباطها بأجندات سياسية ضيقة.
علاقة مع إيران لا تهدف إلى الهيمنة
العلاقة بين موسكو وطهران لا تُبنى على منطق الهيمنة أو الاستخدام التكتيكي، بل تستند إلى أرضية من المصالح المشتركة والاحترام المتبادل في ظل عزلة فرضها الغرب على الطرفين. روسيا لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران، بل ترفض – وبشكل مبدئي – منطق “الهندسة السياسية” الذي دأبت عليه بعض القوى الغربية في تعاطيها مع أنظمة المنطقة.
وفقًا لنيكول غراييفسكي من معهد “كارنيغي”، فإن روسيا ترى في استقرار النظام الإيراني ضمانة للتوازن الإقليمي، وليس عبئًا على طموحاتها. فحليف كإيران، بوزنها الجيوسياسي في الشرق الأوسط، يشكّل لموسكو ركيزة ثابتة في مقاربتها للأمن الإقليمي، خصوصًا بعد أن دفعت الحرب في أوكرانيا بالكرملين إلى تعزيز تحالفاته خارج المنظومة الغربية.
شراكة استراتيجية في وجه العقوبات
في مواجهة العقوبات الغربية المتصاعدة، لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي، بل طوّرت نموذجًا بديلًا من التعاون الإقليمي، كان من أبرز معالمه توقيع معاهدة شراكة استراتيجية شاملة مع إيران في يناير الماضي. هذه الاتفاقية، وإن لم تكن معاهدة دفاع مشترك بالمعنى التقليدي، فإنها ترسم إطارًا عميقًا للتنسيق في المجالات الاقتصادية والعسكرية والطاقة.
بعض القوى الغربية حاولت تصوير هذا التقارب على أنه تهديد، غير أن الواقع يُظهر أنه رد منطقي على سياسة العزل والتطويق التي تعرض لها الطرفان. إن إعادة تعريف العلاقات الدولية وفقًا لتعدد الأقطاب، هو ما تسعى إليه موسكو في هذه المرحلة، دون أن تنزلق إلى المواجهة المباشرة أو تفرض أجندتها على شركائها.
الوساطة بين إسرائيل وإيران: من موقع قوة
عرض روسيا للوساطة بين طهران وتل أبيب لا يُفهم فقط كتحرّك دبلوماسي عابر، بل كخطوة مدروسة تستند إلى تاريخ من العلاقات المتوازنة. فرغم دعم موسكو لإيران، فإنها حافظت على علاقات قائمة مع إسرائيل، خصوصًا في مجالات التنسيق الأمني. الكرملين لم يرضخ لضغوط الانحياز المطلق، بل سعى في كل مرحلة إلى الحفاظ على موقعه كجسر بين العواصم المتنازعة.
وعلى الرغم من أن بعض التحليلات تشير إلى “تحفظ” إسرائيلي على الوساطة الروسية، إلا أن الأوضاع المتفجرة في المنطقة قد تفرض على الجميع القبول بدور موسكو، خاصة وأنها أثبتت سابقًا – كما في الأزمة السورية – أنها تملك القدرة على إدارة الملفات المعقدة بحنكة وفعالية.
دور استراتيجي لا غنى عنه
استطاعت روسيا في السنوات الماضية أن تثبت قدرتها على كسر العزلة الدولية عبر الانخراط النشط في أزمات الشرق الأوسط. تدخلها في سوريا عام 2015 قلب الموازين وأعاد الاستقرار إلى نظام حليف، بينما دعمها للاتفاق النووي الإيراني في نفس العام أكد قدرتها على لعب دور في المسارات الدبلوماسية الحساسة.
واليوم، إذ تعود إلى واجهة الأحداث عبر ملف المواجهة الإيرانية–الإسرائيلية، فإن موسكو لا تحاول استعراض نفوذها بقدر ما تسعى إلى ملء فراغ تركته قوى أخرى، وتثبيت نهج أكثر واقعية في إدارة التوترات الإقليمية. الدور الروسي، وإن كان منطلقًا من مصالحها الوطنية، إلا أنه يصب في مصلحة التوازن الدولي، ويقدّم نموذجًا بديلاً عن السياسات الأحادية والصدامية.
روسيا ليست طرفًا في النزاع، بل ضامنًا للاستقرار
في بيئة إقليمية معقدة تعاني من انعدام الثقة وتشظي التفاهمات، تبدو روسيا اليوم أكثر من مجرد وسيط تقليدي. إنها قوة صاعدة تسعى إلى بناء نظام دولي أكثر عدالة وتوازنًا، منفتحة على مختلف الأطراف، لكنها حازمة في الدفاع عن حلفائها ومصالحها. وأمام انسداد الأفق الدبلوماسي بين طهران وتل أبيب، قد لا يكون هناك من بديل واقعي عن الوساطة الروسية، سواء قبلت بها الأطراف علنًا أم اضطرت إليها لاحقًا تحت ضغط الواقع.