يجد النظام في طهران نفسه مجددًا في وضع معقد يتطلب توازنًا دقيقًا بين الردع والاحتواء. فرغم الحروب بالوكالة التي تخوضها إيران في المنطقة، والضربات المتبادلة عبر أطراف ثالثة، لا تزال القيادة الإيرانية حريصة على تفادي صدام مباشر مع الولايات المتحدة، إدراكًا منها لحجم المخاطر العسكرية والاقتصادية والسياسية التي قد تنجم عن أي مواجهة مفتوحة.
مناورة دبلوماسية وسط اشتعال الجبهات
تمكنت طهران، طوال العقدين الماضيين، من بناء شبكة معقدة من التحالفات والعلاقات الإقليمية سمحت لها بتوسيع نفوذها دون الحاجة إلى مواجهات مباشرة مع واشنطن. فسواء عبر حزب الله في لبنان، أو الحوثيين في اليمن، أو عبر الفصائل المسلحة في العراق وسوريا، ظلّت إيران تستخدم أدوات “الحرب غير المتماثلة” لفرض معادلاتها في الإقليم، بينما تتبنى خطابًا دبلوماسيًا مرنًا في المحافل الدولية.
لكن في الأسابيع الأخيرة، ومع انزلاق التوتر نحو مرحلة جديدة عقب ضربات إسرائيلية استهدفت منشآت نووية في نطنز وأصفهان، ووسط تصريحات أميركية تحذر من اقتراب إيران من امتلاك سلاح نووي خلال “أسبوعين فقط” في حال قررت ذلك، باتت الدبلوماسية الإيرانية أمام امتحان حقيقي: كيف ترد دون أن تُستدرج إلى مواجهة شاملة؟
خطاب مزدوج… وواقعية براغماتية
تعتمد السياسة الخارجية الإيرانية على خطاب مزدوج يُزاوج بين التصعيد الإعلامي والشعارات الثورية من جهة، والمرونة التكتيكية في قنوات التفاوض الخلفية من جهة أخرى. هذا ما ظهر جليًا في السنوات الماضية، لا سيما خلال مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا، حيث أبدت طهران استعدادًا لتقديم تنازلات جزئية مقابل تخفيف العقوبات، دون المساس بجوهر مشروعها الإقليمي أو الدفاعي.
وفي الوقت الذي تتوعد فيه طهران بـ”رد قوي” على الهجمات الإسرائيلية، فإنها تحرص على إبقاء رسائلها موجهة إلى تل أبيب، دون توسيع دائرة المواجهة لتشمل واشنطن، وهو ما يظهر جليًا في تجنب استهداف قواعد أميركية في المنطقة، أو الامتناع عن إصدار بيانات مباشرة تُحمّل واشنطن مسؤولية الهجمات.
رسائل مبطنة إلى واشنطن
تدرك إيران أن الولايات المتحدة، رغم دعمها العلني لإسرائيل، ليست راغبة في الانخراط في حرب جديدة في الشرق الأوسط، خصوصًا في ظل أولوياتها الحالية في أوكرانيا وآسيا، والانشغال الداخلي عشية الانتخابات الرئاسية. من هنا، تراهن طهران على إرسال رسائل غير مباشرة عبر وكلائها الإقليميين، أو عبر تسريبات محسوبة عن تطور قدراتها النووية، لإبقاء باب التفاوض مفتوحًا من جهة، وردع واشنطن عن دعم أي تحرك عسكري واسع ضدها من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، يقرأ كثيرون التحذير الأميركي الأخير حول قدرة إيران على صنع قنبلة نووية في ظرف أسبوعين كرسالة مزدوجة: تحذير لإسرائيل من المبالغة في التصعيد، وتنبيه لإيران من مغبة تجاوز “الخط الأحمر”، مع الحفاظ على قنوات الضغط والحوار مفتوحة في آن.
الهامش الضيق بين المواجهة والاحتواء
لكن هذه المعادلة الدقيقة تواجه تحديات مستمرة. فالتوتر مع إسرائيل بلغ مستويات غير مسبوقة، وموجة الغارات الأخيرة داخل العمق الإيراني تشي بأن تل أبيب لم تعد تكتفي بالردع من الخارج، بل باتت تخوض مواجهة مباشرة، وهو ما قد يضيق هامش المناورة أمام طهران. كذلك، فإن استمرار استهداف المنشآت النووية قد يدفع إيران إلى تسريع برنامجها النووي، وهو ما من شأنه أن يدفع واشنطن إلى خيارات أكثر تشددًا.
ومع هذا، لا يبدو أن القيادة الإيرانية راغبة في كسر الخطوط مع واشنطن، بل تفضل الحفاظ على حالة “التصعيد المضبوط”، الذي يسمح لها بتأكيد حضورها دون الوقوع في فخ الاستنزاف العسكري. وقد تفسر هذه المقاربة حرص إيران على تكثيف اتصالاتها مع دول مثل روسيا والصين، وعلى إرسال إشارات تهدئة غير مباشرة عبر وسطاء إقليميين، كقطر أو سلطنة عُمان، بما يعكس رغبة حقيقية في تجنب مواجهة غير محسوبة العواقب.
دبلوماسية على الحافة
إن الدبلوماسية الإيرانية اليوم تقف على حافة السكين، وهي تسعى لتكريس معادلة “الندية” دون استفزاز مواجهة شاملة. وبين الرد المحسوب والتصعيد غير المباشر، تبدو طهران حريصة على البقاء لاعبًا إقليميًا مزعجًا، لكن دون أن تتحول إلى هدف مباشر لحرب أميركية مفتوحة.
ففي عالم تتداخل فيه المعادلات النووية بالعوامل الجيوسياسية، ليس لدى إيران ترف المغامرة. وبدلًا من ذلك، تراهن على إدارة الصراع بأدوات مرنة، دون كسره. لكن كل يوم يمر في ظل الضربات المتبادلة، يجعل هذه المعادلة أكثر هشاشة، وأقل قابلية للصمود.