في غرفة حضانة صغيرة داخل مجمع ناصر الطبي في خان يونس، يتوزع عدد من الأطفال الخدج داخل الحاضنات، أجسادهم الهشة بالكاد تتحرك، أنفاسهم تخرج متقطعة من أنابيب الأوكسجين، وأصوات الأجهزة ترصد نبضات قلوبهم كأنها تعلن أن الوقت ينفد. بين هذه الأرواح الهشة، تقف الممرضة منى، تمسك بيد أم تبكي بصمت وهي تنظر إلى رضيعها الذي ولد قبل أوانه، ويصارع للبقاء على قيد الحياة. تقول الأم بصوت مخنوق: “هو بحاجة إلى حليب خاص… ليس عندي ما أقدمه له، ولا يوجد في المستشفى ما ينقذه”.
الاحتلال يمنع لبن الأطفال
هذه الأم، مثل مئات الأمهات في غزة، تواجه لحظة انهيار كامل، لا بسبب مرض نادر، بل لأن الاحتلال قرر أن يمنع عبوات الحليب من الدخول، فحكم على أطفال لا ذنب لهم أن يُتركوا للموت جوعاً. لا يمكن لحليب الأم أن يكفي وحده، خاصة في الحالات التي تتطلب تغذية طبية دقيقة، ولا يمكن للمحاليل أن تكون بديلاً آمناً، فهي تضر أكثر مما تنفع إذا استُخدمت بشكل غير متخصص.
في زاوية أخرى من الحضانة، يسهر الطبيب سامر الليلي مع فريقه محاولًا أن يؤخر الكارثة. يقول بصوت يملأه الإحباط: “كل ما نفعله الآن هو شراء وقت.. الحليب الموجود قد لا يكفينا ليومين. بعدها سنبدأ بفقدان الأطفال واحداً تلو الآخر”. يشير إلى حاضنة تضم طفلة ولدت قبل موعدها بشهرين، ويضيف: “هذه الطفلة تحتاج لحليب رقم 1… لا يمكننا تعويضه بأي شيء. وإن لم يصل، لن تعيش”.
حليب الأطفال عملة نادرة
خارج المستشفى، هناك مئات الأمهات يبحثن في الصيدليات عن عبوة حليب، يجولن الأسواق الفارغة بلا جدوى. أم باسل، وهي نازحة من رفح، تحمل رضيعها الملفوف في بطانية خفيفة، وتقول: “أنا لا أطلب شيئاً سوى عبوة حليب… لا مال ولا سكن ولا كهرباء. فقط شيء يُبقيه على قيد الحياة”. نظرتها لا تطلب الشفقة، بل تصرخ بوجع من وصل إلى حد التوسل من أجل حياة ابنه.
في ظل المجاعة المفروضة، أصبح حليب الأطفال عملة نادرة، تُهرّب أحيانًا عبر أنفاق متهالكة، أو يُباع بأسعار خيالية في السوق السوداء، إن وُجد. وهناك من يخلط الطحين بالماء لتغذية الأطفال، أو يكتفي بتقديم الماء وحده، ما يؤدي إلى إصابتهم بالإسهال وسوء التغذية وربما الوفاة.
العقاب الجماعي
لا توجد كلمات تصف تلك اللحظة التي تدرك فيها أم أن طفلها يختنق من الجوع، ليس لأن الغذاء غير موجود في هذا العالم، بل لأنه ممنوع من الدخول بفعل الحصار. هذا الشكل من العقاب الجماعي لا يصيب مقاتلين، بل ينال من أجساد بالكاد بدأت تنمو، ومن قلوب لم تعرف شيئاً من هذه الدنيا سوى جوع وحرب.
وفي كل دقيقة تمر، تقترب الكارثة أكثر. لا يزال العالم مشغولًا في حسابات السياسة، بينما في غزة، طفل رضيع آخر يغلق عينيه إلى الأبد… لأنه لم يجد قطرة حليب.