تفاقم أزمة الوقود في قطاع غزة لا يعبّر عن خلل تقني طارئ، بل يشكّل وجهًا آخر لجريمة مستمرة تُمارس بأدوات متعددة، تتجاوز القصف والتجويع إلى التعطيش الممنهج. ومع توقف عدد كبير من محطات تحلية المياه عن العمل بسبب نفاد الوقود، تنزلق غزة نحو كارثة جديدة، أكثر صمتًا، لكنها لا تقلّ فتكًا. إنها “الإبادة بالتعطيش”، حيث يُنتزع من الناس حقهم في أبسط مقومات الحياة: الماء.
نقص الماء إلى مسألة حياة أو موت
الوضع الراهن يكشف عن ارتباط عضوي بين نقص الوقود وانهيار قطاع المياه. في قطاع يعتمد بنسبة تفوق 90% على محطات التحلية لتوفير مياه الشرب، يشكّل توقف هذه المحطات خطرًا وجوديًا، لا أزمة خدمية. وفي ظل تدمير البنية التحتية وتوقف شبكات المياه المركزية، تُعدّ المحطات الأهلية والمبادرات الخيرية شريان الحياة الأخير. لكن مع غياب الوقود، يتوقف هذا الشريان تدريجيًا، مخلفًا ملايين العطشى في مخيمات نزوح تُشبه مقابر مفتوحة.
المأساة لا تقتصر على العطش، بل تتعمق في أبعادها الصحية والاجتماعية والإنسانية. فالمياه الملوثة والمالحة المتبقية تُفاقم الأمراض الجلدية والمعوية، وتُهدد حياة الأطفال والمرضى وكبار السن. ومع دخول فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، يتحوّل نقص الماء إلى مسألة حياة أو موت، لا مجرد معاناة يومية.
تواطؤ دولي واضح
الدلالات الأخطر لهذه الأزمة تكمن في تواطؤ دولي واضح، حيث تتجاهل المنظمات الأممية، أو تعجز عن الوفاء بتعهداتها بتوفير الوقود والمواد التشغيلية. وكما هو حال منظمة اليونيسيف التي أوقفت دعمها لمحطة “إيتا”، تغيب أغلب المنظمات عن الميدان في لحظة مفصلية، تاركة المبادرات المحلية تنهار تحت وطأة العجز والطلب المتزايد.
في خلفية هذا المشهد، تقف إسرائيل كفاعل مباشر لا يمكن تبرئته. فالحصار المحكم، ومنع إدخال الوقود، واستهداف المحطات والمركبات، كلها إجراءات مدروسة ضمن سياسة الضغط القصوى على المدنيين، لتحويل الماء إلى سلاح، والعطش إلى وسيلة إخضاع. وهو ما أشار إليه مدير المكتب الإعلامي الحكومي بوضوح، حين وصف ما يجري بأنه “جريمة تعطيش جماعي ترتكب ببطء وبقصد”.
تداعيات نقص الوقود
تتجاوز تداعيات نقص الوقود التأثير المباشر على المياه؛ فهي تضرب في عمق المنظومة الإنسانية في القطاع. إذ يُهدد توقف محطات التحلية بانهيار المنظومة الصحية، وانتشار الأوبئة، وزيادة الاعتماد على السوق السوداء، حيث يُباع لتر الوقود بعشرات أضعاف سعره الحقيقي، ما يُجبر المنظمات على الانسحاب، ويترك السكان في مواجهة مصيرهم العطِش.
هذا النوع من الحرب الصامتة، الذي لا تصاحبه انفجارات ولا دمار بصري، لكنه يفتك بالأجساد والأمل والبنية المجتمعية، يعيد تعريف معاني الحصار والاحتلال والإبادة. إنه تجويع من نوع آخر، يُمارَس بالماء، لكنه لا يقلّ قسوة عن أي سلاح تقليدي. وفي ظل صمت المجتمع الدولي، يصبح الوقود في غزة أكثر من مادة تشغيلية، بل هو شريان الحياة الذي يُخنَق عمدًا، تحت مرأى العالم، وفي صمت لا يقلّ إجرامًا عن الفعل ذاته.