تشهد غزة أوضاعًا مأساوية غير مسبوقة، تتجاوز المعاناة اليومية للأحياء لتطال الشهداء الذين يواجه ذووهم تحديات قاسية في سبيل دفنهم بكرامة، وسط أزمة مركبة تعكس عمق الكارثة الإنسانية في القطاع المحاصر.
تدمير المقابر
في قلب هذه المأساة، لم يعد العثور على قبر لدفن الشهيد أمرًا يسيرًا، بل أصبح مهمة شاقة تتطلب الانتظار لساعات طويلة في المقابر التي امتلأت جثامينها وتجاوزت قدرتها الاستيعابية، نتيجة النقص الحاد في مواد البناء مثل الحجارة والإسمنت. هذا النقص يعود بشكل مباشر إلى الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ سنوات، ويزداد سوءًا مع تدمير الاحتلال لعشرات المقابر بشكل ممنهج، ما أفقد السكان القدرة على تجهيز قبور جديدة.
ما يفاقم المشهد هو لجوء ذوي الشهداء إلى استخدام بدائل بدائية وغير آمنة، كجمع الحجارة من المنازل المدمرة واستخدام الطين بدلاً من الإسمنت، لتجهيز قبور مؤقتة وهشة تُغطى بألواح من الصفيح القابل للتآكل. كل هذا يحدث في ظل غياب المواد الأساسية وعدم السماح بدخول مستلزمات البناء إلى القطاع منذ أكثر من عامين.
نفاد الأكفان
المأساة لا تقف عند حدود المقابر، بل تمتد لتشمل الأكفان، حيث أدى نفاد القماش الأبيض المستخدم في التكفين إلى استخدام أكياس بلاستيكية مخصصة لنقل الجثامين. هذا الانهيار الشامل في المقومات الإنسانية يمس أبسط حقوق الإنسان، بل ويمس كرامة الموتى ويعكس حجم الألم والظلم الذي يتعرض له سكان غزة.
بعض العائلات اضطرت إلى نبش قبور قديمة ودفن شهدائها في أماكن سبق أن دُفن فيها أقاربهم، في مشهد يحطم مشاعر الحزن الخاصة ويجعل من الجنازة مأساة مركبة. وفي ظل استمرار استهداف المقابر أو وقوعها في مناطق خطرة تُجبر قوات الاحتلال السكان على إخلائها، أصبحت عملية الدفن بحد ذاتها مجازفة قد تودي بحياة من يحاولون القيام بها.
غياب العدالة
ولم تجد الجهات المحلية حلًا سوى تخصيص أرض جديدة بجوار المخيم الجزائري في منطقة المواصي بخان يونس لإنشاء نحو ألف قبر، في محاولة لتخفيف الضغط، بعد أن دمّر الاحتلال أكثر من 40 من أصل 60 مقبرة في القطاع، بينها 22 مقبرة دُمرت كليًا. لكن حتى هذا الحل الطارئ لا يبدو كافيًا، في ظل تكدّس الشهداء يوميًا وتواصل استهداف المدنيين، ما دفع السكان إلى دفن ذويهم في مقابر جماعية بساحات المستشفيات والمدارس، بل وحتى في الشوارع.
هذا الواقع المرير يعكس حجم الانهيار الإنساني في غزة، حيث لم يعد الموت نهاية للألم، بل بداية لسلسلة من المعاناة لا تنتهي، في غياب العدالة، وصمت العالم، واستمرار الاحتلال في تدمير كل ما يرمز للحياة… وحتى الموت.