يأتي البيان المشترك الصادر عن 114 منظمة مدنية دولية، من بينها “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، الداعي إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، في لحظة مفصلية تعكس تحولًا ملحوظًا في المزاج الحقوقي الأوروبي، كما تكشف عن تصدع متزايد في شرعية العلاقات الأوروبية-الإسرائيلية القائمة منذ عقود. هذه الدعوة، وإن لم تصدر عن حكومات رسمية، فإنها تُعدّ ضربة رمزية وسياسية قوية ضد إسرائيل، تحمل دلالات عميقة وتتجاوز البعد القانوني إلى ما هو أوسع: الشرعية الأخلاقية الدولية.
الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والضفة
جوهر هذه الدعوة يرتكز على المادة الثانية من اتفاقية الشراكة، والتي تنص صراحة على أن “الاحترام لحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية يمثل أساسًا لهذه الشراكة”. وقد باتت هذه المادة مصدر إحراج بالغ للاتحاد الأوروبي، في ظل التغطية المكثفة للجرائم والانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تشير التقارير إلى ارتكاب إسرائيل لما يمكن وصفه بإبادة جماعية، وجرائم ممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك استهداف المنشآت المدنية، وقتل الأطفال، والتجويع الممنهج.
تحرّك المنظمات الحقوقية، وخاصة تلك ذات الثقل الدولي، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، يضع الاتحاد الأوروبي في موقف أخلاقي حساس، ويعزّز الضغوط الشعبية والسياسية على المؤسسات الأوروبية لاتخاذ خطوات ملموسة تتجاوز البيانات الدبلوماسية. فالإبقاء على الاتفاقية سارية رغم الانتهاكات يُعد، في رأي هذه المنظمات، شكلًا من أشكال التواطؤ غير المباشر مع الاحتلال، مما يُقوّض مصداقية الخطاب الأوروبي الذي لطالما تشدّق بالدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان.
مساءلة إسرائيل
من الناحية العملية، فإن أي تعليق لاتفاقية الشراكة – ولو جزئيًا – سيحمل تداعيات متعددة على الأرض، خصوصًا في غزة والضفة الغربية. أولًا، سيوجه رسالة قوية بأن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بسياسات الحصار، أو بالتمييز المؤسسي الذي يعاني منه الفلسطينيون. ثانيًا، قد يسهم في الحد من دعم الآلة العسكرية الإسرائيلية، إذا تضمن التعليق وقف التبادلات التقنية أو بعض الجوانب التجارية ذات العلاقة بالأمن والدفاع.
أما على المستوى الفلسطيني، فإن خطوة كهذه – حال تحققت – ستكون بمثابة انتصار معنوي كبير لأهالي غزة والضفة الغربية، الذين يشعرون اليوم بعزلة متزايدة نتيجة صمت العالم، وسيعزز من ثقة الشعب الفلسطيني بالمنظومة الحقوقية الدولية. كما أنها قد تمنح دفعة قوية للمجتمع المدني الفلسطيني، وتعيد تسليط الضوء على المطالبة بمساءلة إسرائيل قانونيًا، سواء أمام المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال الضغط السياسي الدولي.
تحول موازين الخطاب الدولي
من المتوقع أن تمارس إسرائيل ضغوطًا كبيرة على الاتحاد الأوروبي لوقف أي توجه فعلي نحو التعليق، مستعينة بلوبيات قوية داخل العواصم الأوروبية، بحجة “مكافحة الإرهاب” أو “الحق في الدفاع عن النفس”. لكن في ظل المشاهد اليومية للدمار في غزة، والجرائم الموثقة بالصوت والصورة، تبدو قدرة إسرائيل على تبرير تلك الجرائم أمام الرأي العام الأوروبي آخذة في التآكل.
دعوة المنظمات الحقوقية لتعليق الاتفاقية ليست مجرد خطوة رمزية، بل تعكس تحولًا في موازين الخطاب الدولي بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتُعد بداية مسار قد يؤدي في المستقبل إلى مزيد من العزلة السياسية لإسرائيل، ما لم توقف عدوانها وتلتزم بالقانون الدولي. كما أنها فرصة تاريخية للاتحاد الأوروبي لإثبات استقلاليته ووفائه لمبادئه، بدلًا من البقاء رهينة للتوازنات السياسية والأمنية التي تُمليها واشنطن أو تضغط بها تل أبيب.