يواصل الدم الفلسطيني النزيف في قطاع غزة دون توقف، في مشهد بات يوميًا، لكنه لا يفقد شيئًا من فظاعته أو قسوته. مجزرة جديدة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، ظهر اليوم الخميس، حين استهدفت طائرة مسيّرة مجموعة من المواطنين المدنيين في مدينة دير البلح، وسط القطاع، أثناء تجمعهم في مكان لتوزيع الطحين، قرب مفترق البركة. وأسفر القصف عن استشهاد 18 مواطنًا دفعة واحدة، وسقوط عدد من الجرحى، لترتفع حصيلة شهداء اليوم إلى 65 شهيدًا، في تصعيد يعكس اتساع دائرة الموت التي تطوق القطاع من شماله إلى جنوبه.
ضرب منطقة مدنية مكتظة
المجزرة لم تقع في موقع عسكري، ولم تستهدف مقاتلين، بل ضربت منطقة مدنية مكتظة، وسوقًا شعبية يتجمع فيها المدنيون لأجل ما تبقّى من فتات الحياة: كيس دقيق يسدّ رمق الجوع. وهذا ما يجعل الجريمة أكثر فداحة، وأكثر انكشافًا. إذ لا يمكن التذرع هنا بـ”أهداف عسكرية” أو “أخطاء معلوماتية”، حين يكون الهدف هو بشرًا عزلًا، اصطفوا في طابور انتظار، لا يحملون سلاحًا، بل يحملون كرامة مهددة بالجوع، ويبحثون عن حقهم في البقاء.
تأتي هذه المجزرة في سياق متواصل من التصعيد الإسرائيلي الذي لم يعد يميز بين مقاوم ومدني، بين موقع عسكري ومكان لتوزيع المعونات. ويبدو أن استهداف المراكز التي يتجمع فيها الناس لتلقي مساعدات أو طعام، أصبح سياسة ممنهجة، وليست خطأ عرضيًا. ففي ظل الحصار الخانق، باتت أماكن توزيع الإغاثة مواقع حساسة، ومواقع “قابلة للقتل” في نظر الاحتلال، لأنها تعكس استمرار الحياة، والتمسك بالحق في الصمود، وهو ما لا تريده الآلة العسكرية الإسرائيلية أن يستمر.
جرائم حرب
قصف دير البلح، الذي حوّل سوقًا إلى ساحة موت جماعي، يعيد التأكيد على أن سكان غزة – المدنيين منهم تحديدًا – هم في صلب أهداف هذا العدوان. لم يعد الاستهداف مجرد “أضرار جانبية” كما يحاول الخطاب الإسرائيلي الرسمي تصويره، بل أصبح المدنيون هم الهدف الرئيسي في حرب تشنّ على الوجود، أكثر مما تُشن على فصيل بعينه.
منذ فجر اليوم، كانت غزة على موعد مع القصف المتواصل من الجو والبر، ومع كل ساعة تمر، تزداد قائمة الشهداء، وتتوسع دوائر الحزن. وبهذا، فإن المجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل في القطاع لا تمثل مجرد انتهاكات لحقوق الإنسان، بل ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، وفق التعريفات القانونية الدولية، بالنظر إلى تعمد استهداف التجمعات المدنية، والتكرار المنهجي لأنماط القتل ذاتها.
حرب ضد الحياة
المجتمع الدولي يقف – في أغلبه – متفرجًا. وبين صمت العواصم، وتبريرات بعض الجهات الغربية، يجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين بالدم، لا يجدون عدالة في القانون، ولا رحمة في السياسة، ولا حتى حماية في أكثر الأماكن بداهة: مكان لتوزيع الطحين في مدينة مكلومة.
نزيف الدم الفلسطيني في غزة لم يعد مجرد نتيجة لحرب، بل تحوّل إلى عنوانها الأساسي. إنها حرب ضد الحياة، ضد البقاء، ضد فكرة أن يكون للفلسطينيين مكان آمن واحد يتنفسون فيه. وفي ظل هذا الإصرار الإسرائيلي على جعل كل تجمع بشري هدفًا، وكل مظاهرة حياة جريمة، فإن المشهد لا يشي إلا بكارثة إنسانية تتعمق، وأفق سياسي يغرق في العتمة.