سرقة المساعدات في قطاع غزة لم تعد مجرد تجاوزات فردية أو فوضى عابرة، بل تحوّلت إلى بنية موازية تُعيد إنتاج الجوع بشكل منظّم وتعمّق معاناة مئات آلاف الأسر النازحة. في ظل الحصار الإسرائيلي المشدد، وإغلاق المعابر، والتدمير الممنهج للبنية الصحية، تمثل المساعدات الغذائية والطبية شريان الحياة الوحيد لغالبية السكان، غير أن هذا الشريان بات بيد عصابات منظمة تقتنصه من منابعه وتعيد بيعه بأضعاف سعره، ما أدى إلى اشتعال الأسعار وانفجار الأزمات داخل مجتمع يكاد ينهار من الداخل.
نهب المساعدات
الحكايات اليومية، كقصة أم محمد التي أقسمت أن أبناءها لم يذوقوا الخبز منذ شهر، أو كامل أبو عيادة الذي أصيب وهو يحاول الحصول على سلة غذاء، ليست استثناءات، بل عيّنة من واقع عام تسوده الفوضى، وتسكنه مشاعر اليأس، والغضب، والانكسار. التحكم بالمساعدات من قِبل مجموعات منظمة، وبيعها في الأسواق بأسعار تفوق قدرة أي نازح على الشراء، جعل من الجوع تجارة رابحة لفئة محددة، ومن البقاء مسألة طبقية، لا إنسانية.
لكن الأخطر في هذه المعادلة لا يكمن فقط في دور العصابات، بل في البيئة التي سمحت لها بالتغوّل. إذ باتت مراكز توزيع المساعدات، التي أنشأها الاحتلال تحت ذريعة “تنظيم الإغاثة”، تشكل عمليًا فخاخ موت، يتعرض فيها المدنيون لإطلاق نار مباشر، كما تؤكد شهادات جنود إسرائيليين نشرتها صحيفة “هآرتس”. ومع تجاوز عدد الشهداء عند تلك المراكز 600، بات واضحًا أن الفوضى المفتعلة في ساحة المساعدات لا تخدم فقط تجار السوق السوداء، بل تُستخدم أيضًا أداة إسرائيلية لتقويض البنية المجتمعية في غزة، وتكريس الانهيار الداخلي.
ارتفاع عدد وفيات الأطفال
تتداخل في هذا المشهد ثلاثة عناصر خطرة: الاحتلال الذي يحاصر ويسيطر على وتيرة دخول المساعدات، والعصابات التي تسرق وتتحكم في التوزيع، والتجار الذين يعيدون تدوير هذه المساعدات في الأسواق كسلع نادرة، يبيعونها لمن ينجو من الرصاص. والنتيجة أن آلاف الأسر، وخاصة في المناطق المحاصرة مثل رفح والشمال، باتت تُحرم من أدنى مقومات البقاء، ما أسفر عن ارتفاع عدد وفيات الأطفال بسبب الجوع وسوء التغذية إلى 66 حتى الآن، ودخول 112 طفلاً يوميًا إلى المستشفيات التي تعمل جزئيًا، في ظل شلل شبه تام في البنية الصحية.
هذا الواقع لا يؤدي فقط إلى تعميق المجاعة، بل يشعل أيضًا بؤر الغضب الشعبي داخل المجتمع الغزي ذاته. إذ يشعر المواطن العادي بأن حياته تُستنزف على يد أكثر من عدو: الاحتلال الذي يحاصر، والعصابات التي تنهب، و”نخب” داخلية تتواطأ بالصمت أو تستفيد من تدوير الأزمة. هذا الشعور المتراكم بالتهميش والخذلان، قد يتحول إلى شرارة انفجار اجتماعي داخلي، خاصة إذا تواصل حرمان الفقراء والنازحين من حقهم في الغذاء، واستمرار احتكار القلة للمعونات.
تفكيك النسيج المجتمعي
لم يعد الجوع في غزة مسألة مرتبطة فقط بسياسات الاحتلال، بل صار مركّبًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا داخل بنية الأزمة. وسرقة المساعدات ليست مجرد جريمة جنائية، بل حلقة في مشروع أشمل لتفكيك النسيج المجتمعي، وتحويل الغزيين من أصحاب حق في الحياة، إلى متسولين على أبواب الطحين، يقتتلون على كسرة خبز، في مشهدٍ تقوده القوى المسلحة، وتغذيه تجارة سوداء، ويغض العالم عنه الطرف.