علن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسمياً دخول صاروخ “أوريشنيك” فرط الصوتي، متوسط المدى، مرحلة الإنتاج المتسلسل، وذلك خلال خطاب متلفز ألقاه أمام خريجي الكليات العسكرية الروسية، في رسالة تبدو موجهة إلى أكثر من طرف دولي في آنٍ واحد.
الصاروخ الجديد، الذي يُقدّر مداه بـ5500 كيلومتر، ليس مجرد إضافة تقنية لترسانة موسكو، بل يُمثل ترجمة عملية لعقيدة الردع الروسية المتجددة في وجه ما تعتبره القيادة الروسية “تمددًا غربيًا” على حدودها الشرقية، وتأكيدًا على جاهزية موسكو لخوض سباق التسلح على قاعدة التفوق النوعي.
السلاح الذي “لا يمكن اعتراضه”
وصف بوتين “أوريشنيك” بأنه سلاح يقترب في قوته التدميرية من السلاح النووي، مشددًا على أنه “من شبه المستحيل اعتراضه”، وهي العبارة التي تتكرر كثيرًا في خطاب الكرملين عند الترويج لبرامج التسليح الفرط صوتية.
ويستند بوتين في هذا التوصيف إلى التجربة العملياتية التي جرى خلالها استخدام الصاروخ في قصف منطقة دنيبرو الأوكرانية في نوفمبر الماضي، بحسب قوله، وهو ما يُعد بمثابة اختبار واقعي لقدرات السلاح الجديدة، وتلميحًا ضمنيًا إلى إمكانية استخدامه في مسارح عمليات متعددة خارج الحدود الأوكرانية.
المعنى الأعمق لهذا التصريح لا يكمن فقط في استعراض القوة، بل في محاولة إعادة رسم معادلات الردع على المسرح الأوروبي، إذ يلمح الكرملين إلى أن أهدافًا في عمق أوروبا، بل وحتى على السواحل الأميركية، باتت في مرمى هذا الصاروخ، بما يعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة ولكن بأدوات أكثر تطورًا.
مناورات الردع وتوازن الرعب المتجدد
الإعلان عن بدء الإنتاج المتسلسل لـ”أوريشنيك” يأتي في توقيت بالغ الحساسية؛ فالصراع في أوكرانيا لم يعد محصورًا في الأراضي الشرقية، بل تمدد إلى فضاءات استراتيجية تشمل بحر البلطيق، والقطب الشمالي، وحتى المجال السيبراني. وفي ظل تصاعد الدعم الغربي لكييف، تسعى موسكو إلى تثبيت معادلة ردع جديدة تستند إلى أسلحة يصعب مواجهتها أو التصدي لها.
تصريحات بوتين حول غياب أي “وسيلة حالية لمواجهة هذا السلاح”، تعكس سعي روسيا لتجاوز العقوبات والحصار العسكري الغربي عبر إنتاج أسلحة غير تقليدية، تعيد إليها زمام المبادرة في موازين القوى الدولية، وهو ما يعيد إحياء مفهوم “توازن الرعب”، لكن بنكهة تكنولوجية أكثر تطرفًا.
إشارة إلى الداخل وإيحاء للخارج
لم يكن اختيار بوتين لمنصة إعلان هذا التطور العسكري عشوائيًا؛ فالخطاب أمام خريجي الكليات العسكرية يحمل بُعدًا رمزيًا واضحًا، يُراد منه التأكيد على أن روسيا تُسلّح الجيل القادم من ضباطها بسلاح “تفوقي”، يضعهم في طليعة الجيوش الكبرى. في الوقت نفسه، لا يخفى البُعد الدعائي لهذه الخطوة، لا سيما وأن الإعلام الروسي حرص على تسليط الضوء على الصاروخ بوصفه “حصانة مستقبلية” ضد التهديدات الغربية.
لكن هذا الإيحاء لا يخلو من رسائل ضمنية موجهة إلى الداخل الروسي أيضًا، في وقت يواجه فيه الكرملين تحديات اقتصادية وضغوطًا اجتماعية متراكمة نتيجة استمرار الحرب، ما يجعل من الخطاب الأمني والتسلحي أداة أساسية في إعادة توجيه الرأي العام الوطني نحو أولويات “الأمن القومي” بدلًا من الأسئلة المرتبطة بكلفة الحرب الطويلة.
صاروخ واحد… وسباق لا يتوقف
مع دخول “أوريشنيك” خط الإنتاج، تفتح موسكو صفحة جديدة في سباق التسلح الفرط صوتي، الذي بات محوره الأساسي يتمثل في من يمكنه الوصول إلى “ضربة الردع الأولى” دون أن يُكشف أو يُعترض. وفي غياب اتفاقيات دولية جديدة للحد من التسلح، بعد انهيار معاهدة القوى النووية المتوسطة (INF)، يبدو أن العالم يدخل حقبة جديدة من التوازنات الصاروخية غير المنضبطة.
المفارقة أن ما يُسوّق له كسلاح لـ”الحفاظ على الأمن”، قد يكون في جوهره خطوة نحو مرحلة أكثر هشاشة، حيث يتسابق الجميع نحو سقف تكنولوجي مرتفع، دون أن تتوافر أرضية سياسية مواتية لضبط التوترات أو الحد من الانزلاق نحو مواجهة أوسع.