أعلنت وزارة التجارة الصينية عن استكمال تفاصيل اتفاق تجاري جديد مع الولايات المتحدة، في إطار تفاهم جرى التوصل إليه خلال مفاوضات اقتصادية وتجارية استضافتها العاصمة البريطانية لندن. ويتضمن الاتفاق التزامات متبادلة من الطرفين تهدف إلى تهدئة التصعيد التجاري، وفتح نافذة للتعاون في ملفات تكنولوجية وصناعية شائكة، طالما شكلت نقطة خلاف بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم.
وبحسب بيان رسمي صادر عن الوزارة الصينية، فإن واشنطن تعهدت برفع مجموعة من القيود التجارية المفروضة على الصين، مقابل التزام بكين بمراجعة طلبات تصدير المنتجات الخاضعة للرقابة، والموافقة عليها إذا استوفت الشروط القانونية. وأكد المتحدث باسم الوزارة أن بلاده تأمل بأن “تلتقي الولايات المتحدة والصين في منتصف الطريق”، مشددًا على ضرورة تطوير العلاقة التجارية بشكل “سليم، مستقر، ومستدام”، وفقًا لما نقلته وكالة “فرانس برس”.
التصعيد السابق لا يزال في الأذهان
يأتي هذا الاتفاق بعد فترة من التوترات التجارية المتبادلة التي تجلت في قرارات أميركية بفرض رسوم جمركية إضافية على الصين وشركاء تجاريين آخرين، في سياق سياسة “أميركا أولاً” التي تبناها الرئيس دونالد ترامب. وقد ردّت بكين في حينه برسوم جمركية مضادة، ما رفع نسبة التعرفة الأميركية إلى 145%، في مقابل رسوم صينية بلغت 125% على عدد من السلع الأميركية.
التصعيد لم يقف عند حدّ الرسوم الجمركية، بل توسّع ليشمل مواد استراتيجية، إذ أعلنت الصين فرض قيود على تصدير “العناصر الأرضية النادرة”، وهي مكونات حيوية في صناعات التكنولوجيا والدفاع، وتحتكر بكين حصة كبرى من سوقها العالمي.
ردّ الفعل الأميركي حينها اتسم بالتحذير ومحاولة الالتفاف، لكن الأزمة دفعت الجانبين إلى الجلوس مجددًا إلى طاولة المفاوضات، بداية في جنيف، ثم في لندن، حيث جرى التوصل إلى تفاهمات جزئية تضمنت خفض الرسوم المتبادلة بشكل مؤقت، مع جدول زمني لاختبار التزامات كل طرف.
تفاهمات متجددة… وثقة متوترة
البيان الصيني الأخير أشار إلى أن الاتفاق الذي تم في لندن يمثل “تأكيدًا متبادلاً” على ما تم التوصل إليه في جنيف، ويُعد خطوة عملية نحو خفض التوتر. لكن سوابق الاتهامات المتبادلة بعدم الالتزام، خاصة تلك التي وجّهها مسؤولون أميركيون إلى بكين في وقت سابق، تُلقي بظلالها على مستقبل هذا الاتفاق.
في مقابلة مع وكالة “بلومبيرغ”، قال وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك إن الجانب الصيني “سوف يقوم بتوصيل معادن الأرض النادرة إلينا، وبمجرد أن يحدث ذلك، سنرفع إجراءاتنا المضادة”. ويُفهم من ذلك أن واشنطن ستُبقي بعض الضغوط قائمة حتى تتأكد من التطبيق العملي للاتفاق، مما يكشف عن افتقار واضح للثقة رغم التفاهمات المعلنة.
أما الرئيس ترامب، فقد ألمح خلال مناسبة رسمية إلى توقيع اتفاق “أمس” مع الصين، ووصفه بأنه “خطوة كبيرة”، قبل أن يُشير إلى احتمال وجود اتفاق قريب مع الهند، في سياق ما بدا استعراضًا لسلسلة تفاهمات ثنائية يريد استخدامها كورقة ضغط داخلي وخارجي معًا.
واقع معقد وسياق دولي متحوّل
اللافت أن هذا الاتفاق لا يأتي في سياق تحوّل استراتيجي شامل في العلاقات الأميركية الصينية، بل يبدو أقرب إلى محاولة لاحتواء مسار تصادمي كان يُهدد بإلحاق الضرر بكلا الاقتصادين في وقت يواجه فيه العالم اضطرابات سلاسل الإمداد، واشتداد المنافسة في مجالات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والطاقة.
فالصين، التي تواجه ضغوطًا على مستوى النمو ونزيف استثماري خارجي، تحتاج إلى تهدئة مع الولايات المتحدة لاستعادة ثقة الأسواق، خصوصًا في ظل العقوبات التقنية التي تطال شركاتها الكبرى. أما واشنطن، فهي تتجه إلى موسم انتخابي حاسم، تسعى خلاله إدارة ترامب إلى استعراض إنجازات اقتصادية يمكن تسويقها للناخب الأميركي، دون أن تُفهم على أنها تنازلات مجانية لبكين.
اختبار النوايا يبدأ الآن
تظل الأسئلة الكبرى بعد الإعلان عن الاتفاق: هل ينجح الطرفان في تنفيذ الالتزامات المتبادلة؟ وهل تمثل هذه التفاهمات بداية مسار طويل من خفض التصعيد، أم أنها مجرد هدنة مؤقتة بُنيت على تفاهمات هشة؟
الواقع أن كِلا الطرفين بحاجة إلى مكاسب تكتيكية أكثر من حاجتهما إلى تسوية استراتيجية في هذه المرحلة، ما يجعل من تنفيذ الاتفاق اختبارًا حقيقيًا للنيات، لا مجرد توقيع عابر لخفض العناوين السلبية في الإعلام والاقتصاد.