يمثّل حرق منشأة أمنية إسرائيلية على يد مستوطنين في الضفة الغربية تطورًا بالغ الخطورة في طبيعة التوترات داخل المشهد الإسرائيلي، ويكشف عن عمق الانقسام بين التيارات المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي ومؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش نفسه. فرغم أن المستوطنين لطالما اعتُبروا حليفًا ضمنيًا للمشروع الأمني والعسكري في الضفة، إلا أن هذا الحادث يسلّط الضوء على انقلاب بعض المجموعات الاستيطانية على المؤسستين العسكرية والأمنية، بل وعلى منطق الدولة ذاته.
غضب المستوطنين واليمين المتطرف
الدلالة الأولى لهذا الحدث تكمن في تصدّع العلاقة بين الجيش الإسرائيلي وبين جزء من القاعدة الإيديولوجية التي يفترض أنها تخدم المشروع الاستيطاني. فحرق منشأة أمنية إسرائيلية، وصفت بأنها “تُستخدم لإحباط الهجمات والحفاظ على الأمن”، يُعدّ تجاوزًا صريحًا لهيبة الدولة، ويضع الجيش في موقع الخصم، لا الحامي، في نظر بعض المستوطنين الذين باتوا يرون أنفسهم فوق القانون، حتى عندما يتعلق الأمر بأجهزة الدولة الأمنية.
هذا الانفلات يكشف عن حالة من التمرّد غير المسبوق في أوساط اليمين المتطرف والمستوطنين، الذين بدأوا يترجمون غضبهم من أي محاولة للحد من نفوذهم أو كبح سلوكهم العنيف تجاه الفلسطينيين، إلى عنف مباشر ضد رموز الدولة. فالهجوم على الجيش الإسرائيلي يأتي بعد إحباط القوات لمحاولة اقتحام قرية فلسطينية، الأمر الذي عدّه المستوطنون خيانةً لقضيتهم “الدينية والأمنية”.
نزع الشرعية
الدلالة الثانية تتعلق بردود الفعل السياسية، حيث أُجبر وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش على إصدار إدانة علنية لهذا التصرف، وهو ما يُعدّ مؤشراً على حجم الحرج الذي سببته هذه الحادثة، حتى لرموز اليمين المتشدد. لكنه في الوقت نفسه حاول أن يفصل بين “المتطرفين” وبقية المستوطنين، في محاولة لتقليص أثر الحادث على صورة المشروع الاستيطاني. غير أن هذا الفصل لا يصمد أمام واقع أن التطرف بات متغلغلاً في صفوف نسبة معتبرة من المستوطنين، كما في أوساط ممثليهم السياسيين.
كما أن التهجم اللفظي على قائد كتيبة عسكرية إسرائيلية، واتهامه بالخيانة، يعكس حالة من التحوّل من مجرد الاعتراض السياسي إلى نزع الشرعية عن القيادات العسكرية التي لا تنفّذ أجندات المستوطنين بحذافيرها. وهذا الأمر، إذا لم يتم كبحه، قد يتطوّر إلى تمرد منظّم يُضعف من قدرة الجيش على إدارة الوضع الأمني في الضفة، بل ويضعه في مواجهة مباشرة مع مجموعات يدّعي الدفاع عنها.
سياسات القمع في الضفة الغربية
في التحليل الأعمق، يطرح هذا الحادث تساؤلات استراتيجية حول قدرة الدولة الإسرائيلية على ضبط المستوطنين ضمن إطار القانون، خاصة مع تغوّل خطاب “أرض إسرائيل الكاملة” وانتشاره في الأوساط الشبابية للمستوطنين، ما يجعلهم يرفضون أي دور للدولة يقيّد اندفاعهم الإيديولوجي.
كما أن تكرار حوادث اعتداء المستوطنين على الجيش، وتدميرهم منشآت أمنية، يضرّ بصورة إسرائيل في الخارج، خاصة مع التوترات المتزايدة بشأن الاستيطان وسياسات القمع في الضفة الغربية. وبالتالي، فإن عدم قدرة الحكومة الإسرائيلية على ردع هذه المجموعات قد يُفسَّر على أنه تواطؤ ضمني، أو ضعف في فرض السيادة.
في المحصلة، فإن حرق المنشأة الأمنية ليس مجرد حادث فردي، بل هو مؤشر على تفكك داخلي في بنية العلاقة بين مؤسسات الدولة والتيارات المتطرفة التي كانت حليفة لها، وهو ما ينذر بمخاطر حقيقية على التماسك الإسرائيلي في الضفة الغربية، سواء على المستوى الأمني أو السياسي.