في غزة، حيث لكل منزل حكاية انتظار، ولكل أم نافذة ترقب لا تُغلق، عادت قصة حسام البردويل إلى الضوء بعد عام ونصف من الغياب الموجع. لم يكن حسام جنديًا في ساحة المعركة، بل شابًا من أبناء القطاع، خرج يومًا ولم يعد، تاركًا خلفه قلب أم يتمزق، وعائلة تحاول اقتفاء أثره بين القصف والمقابر والمستشفيات.
تيشيرت حسام
في صباح حزين من حزيران، داخل أرض زراعية متواضعة في منطقة البيدر غرب وادي غزة، عثر أحد المواطنين على جثمان متحلل ملقى تحت شجرة تين، جسد صامت تتناثر حوله بقايا من قماش وملابس باهتة، لا تحمل اسمًا ولا عنوانًا، لكنها تحمل الذاكرة.
وصلت العائلة، وعينا الأم المسكونتان بالانتظار فاضتا دمعًا حين التقطتا من بين الركام ما لا يستطيع أي مختبر في العالم أن يُخطئه: “تيشيرت حسام”. قطعة قماش كانت آخر ما ارتداه حين غادر البيت ولم يعد. لحظة التعرف لم تكن لحظة وداع، بل لحظة نجاة نفسية من جحيم الاحتمالات. لحظة أرادت فيها أن تصرخ: “نعم، هو… لقد وجدناه”، وكأن الفقد انتهى رغم أن الوجع بدأ.
مجرد رفات
لم يكن جسد حسام مجرد رفات، بل كان رسالة كاملة على فشل العالم في إنقاذ إنسان بسيط من الموت البطيء. صور الجثمان أظهرت رباطًا ملفوفًا حول قدمه الجريحة، محاولة يائسة لإيقاف نزيفه، ومعها رسالة غير مكتوبة تقول: “حاولت أن أنجو، انتظرتكم، ولم تأتوا”.
قصة حسام لا تختلف عن مئات القصص في غزة، لكنها تكشف جانبًا إنسانيًا لا يُرى في نشرات الأخبار. لم يمت في لحظة قصف، بل مات في معركة صامتة بين الحياة والموت، بين الأمل والعزلة، في مكان معزول لا يسمع صراخه أحد، ولا تصل إليه حتى طائرات الإسعاف.
والدته، التي قالت بعد رؤيته “الحمد لله وجدناه”، عبّرت عن مشاعر تتجاوز اللغة. فالمأساة في غزة لم تعد فقط في فقدان الأحبة، بل في أن يصبح العثور عليهم “انتصارًا صغيرًا”، وجبر خاطر مؤلم.
ضمير الإنسانية
في وداعه الأخير، لم تُرفع رايات، ولم تُنصب الخيام، لكن بقيت القصة، وبقي الرباط المشدود على الجرح كوثيقة، لا على عدوانٍ قتله فقط، بل على عالمٍ تركه ينزف وحيدًا، تحت شجرة تين، دون أن يسمع صراخه أحد.
حسام البردويل اسم ينضم إلى سجل الشهداء بصمت، لكنه يصرخ في ضمير الإنسانية: كم من “حسام” لا يزال ينتظر أن يُعثر عليه؟ وكم من أم لا تزال تحتفظ بقطعة قماش، تنتظر أن تكتمل بها القصة؟