منذ عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى الواجهة السياسية، لا يكاد يمر يوم في الولايات المتحدة دون نشر نتائج استطلاع جديد يكشف عن مدى تأييد أو رفض الشارع الأميركي لسياساته الداخلية والخارجية. لكن اللافت أن نتائج هذه الاستطلاعات لا تعكس مجرد تباين في الرأي، بل تصل في كثير من الأحيان إلى درجة التناقض الصريح، حتى باتت مصدرًا للبلبلة أكثر من كونها أداة تحليل علمية موثوقة.
دعم يتوسع… أم قاعدة تنهار؟
تظهر بعض الاستطلاعات أن نسبة تأييد ترامب شهدت ارتفاعًا غير مسبوق، وخاصة بين فئات الأقليات، وأن الهجوم الأميركي الأخير على المنشآت النووية الإيرانية عزّز مكانته بين شرائح واسعة من الناخبين، خاصة المحافظين. وتذهب بعض التقارير إلى حد القول إن ترامب استعاد قاعدته الشعبية بقوة، ووسعها لتشمل فئات لم تكن داعمة له في السابق.
لكن، وفي الوقت نفسه، تكشف استطلاعات أخرى أن شعبية الرئيس السابق تشهد تراجعًا ملحوظًا، وأن جزءًا كبيرًا من الناخبين يشعرون بالإحباط من تصاعد التوترات الخارجية، ويرفضون أي انخراط عسكري أميركي جديد في الشرق الأوسط.
ووسط هذا التناقض، يصعب على المتابع تحديد ما إذا كانت قاعدة ترامب تتوسع فعلًا، أم أنها تتآكل ببطء بفعل تبدّل أولويات الشارع الأميركي.
أزمة مصداقية… واستطلاعات “مكسورة”
ظاهرة التناقضات الفاقعة في نتائج استطلاعات الرأي ليست جديدة على الساحة الأميركية، لكنها باتت أكثر وضوحًا وعمقًا في عهد ترامب، لا سيما بعد أن شكّلت انتخابات 2020 نقطة تحوّل في مصداقية أدوات قياس الرأي العام.
تقرير صادر عن “الجمعية الأميركية لبحوث الرأي العام” وصف استطلاعات ذلك العام بأنها “الأقل دقة منذ أربعة عقود”، مشيرًا إلى أن الفجوة بين نتائج الاستطلاعات ونتائج صناديق الاقتراع كانت الأكبر على الإطلاق، خاصة على مستوى الولايات المتأرجحة.
ورغم محاولات فهم الأسباب، يعترف التقرير نفسه بعجز الخبراء عن تحديد المسببات الدقيقة لهذا الخلل، لكنه أشار إلى عاملين أساسيين: الأول هو امتناع شرائح من الأميركيين عن المشاركة في الاستطلاعات، والثاني هو “تسييس” العملية نفسها، إذ إن رفض ترامب المتكرر لنتائج الاستطلاعات التي لا تروقه، واتهامه إياها بأنها “مزيفة” أو “مُسيّسة”، ساهم في خلق بيئة من الشك والعزوف لدى ناخبيه عن التعاون مع المؤسسات البحثية.
تناقض أم تعبير عن واقع مُعقّد؟
ومع استمرار موجات الاستطلاعات المتضاربة، خاصة في ظل التوترات الأخيرة بين واشنطن وطهران، يُطرح تساؤل جوهري: هل تعكس هذه النتائج حالة من الانقسام الحاد داخل المجتمع الأميركي، أم أنها ثمرة خلل منهجي متأصل في أدوات القياس نفسها؟
البعض يرى أن تنامي الهوة بين وسائل الإعلام والجمهور، إضافة إلى تغير أنماط المشاركة السياسية لدى الأميركيين، خاصة بين من لا يحملون شهادات جامعية أو يقيمون في المناطق الريفية، أفرز صعوبة متزايدة في تمثيل الواقع بشكل دقيق في الاستطلاعات.
آخرون يرون أن استخدام الاستطلاعات كأداة للصراع السياسي أضعف صدقيتها، وحوّلها من مؤشر موضوعي إلى سلاح إعلامي يُستخدم في المعارك الانتخابية لتوجيه الرأي العام بدلاً من قياسه.
الناخب الأميركي… بين الارتباك والتجاهل
في نهاية المطاف، يبدو أن الناخب الأميركي بات هو الضحية الأولى لفوضى الاستطلاعات. فبين عناوين تؤكد اتساع شعبية ترامب، وأخرى تنذر بانهيارها، يتشتت الرأي العام، وتفقد الأرقام دلالتها.
الأدهى من ذلك، أن عدداً من وسائل الإعلام الأميركية الكبرى باتت تُقر علناً بأن “الاستطلاعات باتت مكسورة”، في إشارة إلى تآكل الثقة بهذه الأداة الديمقراطية الكلاسيكية.
وفي ظل الاستقطاب الحاد، وتحولات الرأي المتسارعة، تتزايد الشكوك في قدرة استطلاعات الرأي – حتى وإن أجريت بمنهجية عالية – على تقديم صورة دقيقة للواقع الأميركي المتغير. ومع اقتراب معركة الانتخابات المقبلة، سيكون لهذه الأزمة دور محوري في إعادة تشكيل المعركة السياسية، وربما نتائجها.