تشير المعطيات المتوافرة من عدة مصادر إلى أن مسار الهدنة في غزة دخل مرحلة أكثر نضجًا، مع تكثّف التحركات الدبلوماسية وتصاعد الضغط الأميركي، خاصة من إدارة الرئيس ترمب، لدفع الأطراف نحو اتفاق جزئي يمتد لـ60 يومًا. هذه المرحلة المفصلية تتسم بتداخل عوامل داخلية وإقليمية ودولية، تجعل من الهدنة المحتملة خطوة ممكنة من الناحية السياسية، وإن ظلت محفوفة بالتعقيدات الميدانية والحسابات الاستراتيجية المتناقضة لدى الأطراف المعنية، خصوصًا إسرائيل وحركة حماس.
الضغوط الأميركية
التحول في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي بات يتحدث صراحة عن “أولوية إطلاق سراح الرهائن”، يمثل تغيرًا جوهريًا في المزاج السياسي الإسرائيلي، بعدما ظلت أولويات الحرب محصورة في “هزيمة حماس وتدمير بنيتها العسكرية”. ويبدو أن هذا التحول لا يعكس فقط نضج المسار التفاوضي، بل أيضًا إدراكًا لدى القيادة الإسرائيلية بأن أدوات الحرب استُنفدت دون تحقيق اختراقات حاسمة، سواء في القضاء على حماس أو في استعادة الرهائن.
الضغوط الأميركية باتت أكثر وضوحًا، لا سيما مع تدخل مباشر من الرئيس ترمب، الذي لم يكتفِ بالتشجيع الدبلوماسي، بل استخدم منصاته لتوجيه رسائل علنية تُطالب بإبرام الاتفاق وإعادة الرهائن. ويبدو أن هذا الضغط، إلى جانب الوساطات المصرية والقطرية والتركية، يُشكّل بيئة تسمح بالتوصل إلى اتفاق مؤقت، حتى وإن لم يتضمن حلاً نهائيًا للحرب.
صيغة الهدنة المطروحة
في المقابل، يظهر أن صيغة الهدنة المطروحة تتمحور حول تجزئة الملفات. إذ يجري التعامل مع إطلاق سراح الرهائن وإدخال المساعدات كمرحلة أولى، تؤسس لمفاوضات لاحقة بشأن الملفات الأكثر حساسية مثل وقف إطلاق النار الشامل، مستقبل القطاع، ونزع سلاح المقاومة. هذه التجزئة قد تكون الطريقة الوحيدة لتجاوز التعقيدات الحالية، لكنها أيضًا تحمل في طياتها احتمال انهيار الهدنة في حال تعثر تنفيذ الشق الأول أو تعرّضه لاستفزازات ميدانية.
من جانب حماس، لا تزال الحركة تشترط إنهاء الحرب وانسحاب الاحتلال من غزة مقابل الدخول في اتفاق، في حين تتمسك إسرائيل برفض نزع سلاح الحركة كمبدأ لأي تسوية. ورغم أن هذه الشروط المتقابلة تُظهر الفجوة بين الطرفين، إلا أن مؤشرات الواقع السياسي والعسكري تشير إلى وجود رغبة ضمنية في التهدئة، ولو مؤقتًا، لدى الطرفين. فحماس تواجه أزمة إنسانية خانقة في القطاع، وإسرائيل تواجه ضغطًا داخليًا متصاعدًا، سواء من عائلات الرهائن أو من المعارضة السياسية التي بدأت تطالب علنًا بوقف الحرب.
الحسابات الشخصية لنتنياهو
من جهة أخرى، تلعب الحسابات الشخصية لنتنياهو دورًا مؤثرًا في صياغة موقفه الراهن. فالرجل، الذي خرج لتوّه من “مغامرات” في لبنان وإيران، يسعى لترسيخ صورة المنتصر سياسيًا، لكنه يدرك في الوقت ذاته أن استمراره في الحرب دون أفق واضح قد يُفقده ما تبقى من شرعية شعبية وحكومية، خصوصًا بعد تململ داخل الجيش والمؤسسة الأمنية.
أما على المستوى الإقليمي، فإن دخول القاهرة وأنقرة والدوحة على خط الوساطة يعكس تنسيقًا ثلاثيًا غير مسبوق، يهدف إلى تثبيت تهدئة طويلة الأمد. وتبدو القاهرة حريصة على تمرير الهدنة جزئيًا أولًا، على أمل أن يُخلق لاحقًا زخم سياسي يسمح باستدامة وقف إطلاق النار. هذا النموذج سبق أن جُرّب في هدنة نوفمبر 2023، ويُعاد الآن بآليات محدثة وضغوط أكبر.
مصير الهدنة
ورغم هذه الإشارات الإيجابية، فإن مصير الهدنة يظل رهين عوامل متداخلة، أبرزها: قدرة إسرائيل على اتخاذ قرار سياسي شجاع بالتخلي عن فكرة “الحسم الكامل”، واستعداد حماس للدخول في اتفاق مؤقت لا يضمن لها حتى الآن وقفًا دائمًا للحرب. كما أن أي حادث ميداني – مثل اغتيال، أو غارة كبيرة، أو تعثر في تنفيذ بنود الاتفاق – قد يُفجّر الموقف مجددًا.
الهدنة الجزئية في غزة تلوح في الأفق كخيار واقعي في ظل معادلة “لا نصر ولا هزيمة”، لكن ثباتها يعتمد على إدارة دقيقة للملفات المتفجرة، وإرادة سياسية قادرة على تحمّل كلفة التنازلات المؤقتة، بانتظار تسويات أشمل لم تنضج بعد.