تتجلى مأساة غزة اليوم في أبشع صورها، حيث تواصل آلة الحرب الإسرائيلية حصد الأرواح في قطاع يكاد يكون قد خرج بالكامل من معادلة الحياة. ففي الساعات الأولى من صباح الخميس، أفادت المصادر الطبية بمقتل 63 فلسطينياً، بينهم 28 شخصاً استُهدفوا أثناء انتظارهم للمساعدات الإنسانية، في مشهد يكشف حجم الانهيار الأخلاقي والعسكري في التعامل مع الكارثة المستمرة. أن يموت إنسان جوعاً في القرن الحادي والعشرين هو مأساة، لكن أن يُقتل أثناء محاولته الحصول على رغيف خبز أو كيس طحين، فهذه جريمة تُسجل في سجل الإنسانية لا السياسة فقط.
استهداف تجمعات المدنيين
لم تعد غزة ساحة حرب تقليدية بين طرفين، بل تحولت إلى مكان يتقاتل فيه الناس على البقاء، بينما يقف المجتمع الدولي في حالة من العجز والتواطؤ الصامت. ما يزيد من فداحة المشهد أن القصف الإسرائيلي لم يقتصر على أهداف عسكرية مزعومة، بل طال مدرسة تؤوي نازحين غرب مدينة غزة، حيث انتُشل منها عشرة شهداء آخرين. استهداف المراكز المدنية لم يعد استثناءً، بل بات هو القاعدة، لتصبح المدارس والمراكز الصحية ومراكز توزيع الإغاثة جزءاً من بنك الأهداف اليومي.
وفي ظل هذه الفوضى، تتحدث الإحصاءات عن أكثر من 500 قتيل سقطوا في محيط مراكز الإغاثة منذ أواخر مايو، وهو رقم يتجاوز أي تبرير يتعلق بـ”أخطاء غير مقصودة” أو “استهدافات لمسلحين”. إن التكرار المنتظم لهذه الحوادث يؤكد أن هناك نمطاً متعمداً في استهداف تجمعات المدنيين، وخصوصاً تلك التي تتعلق بالحصول على الغذاء والماء والدواء، وهي أبسط حقوق الإنسان في زمن الحرب.
القضاء على حماس
الطابع المأساوي للمشهد لا يقتصر على الأرقام، بل يتجسد في التفاصيل اليومية التي أصبحت جزءاً من حياة مليوني فلسطيني باتوا مشردين وسط الركام. المساعدات التي تُرسل عبر المؤسسات الدولية غالباً ما تتحول إلى فخ قاتل، إذ ينتظرها الجوعى بأمل النجاة، فيتحول ذلك الأمل إلى دماء تسيل على الطرقات، سواء بسبب القصف أو إطلاق النار من قوات الاحتلال، بحجة “الاشتباه” أو “الفوضى في التوزيع”.
هذا الواقع يسلط الضوء على عطب مزدوج: الأول، يتمثل في الآلة العسكرية الإسرائيلية التي لم تعد تميز بين مقاوم ومدني، بين طفل وجندي، والثاني في النظام الدولي الذي يعجز عن فرض حماية للمساعدات الإنسانية، أو حتى محاسبة دولة عضو في الأمم المتحدة على ارتكاب انتهاكات ممنهجة بحق المدنيين.
الحرب المستمرة منذ نحو عامين تحت شعار “القضاء على حماس” تحوّلت عملياً إلى حرب على السكان، على الأطفال، على البنية التحتية، وعلى آخر ما تبقى من مقومات الحياة. ليس من الواضح ما إذا كان الهدف الحقيقي هو إسقاط الحركة المسلحة، أم كسر روح المجتمع الفلسطيني وتجويعه وتركيعه. فحين تصبح كل محاولة للحصول على الطعام فعلاً محفوفاً بالموت، تتحول الحياة إلى مشروع صراع من أجل البقاء، لا إلى كرامة وطنية ولا حتى إلى مطلب إنساني.
فشل النظام الدولي
ولا يمكن قراءة هذا المشهد الدامي من دون التوقف عند الموقف الدولي، وخاصة من القوى الكبرى، التي اكتفت في أفضل الأحوال بالدعوة إلى “ضبط النفس” و”تسهيل المساعدات”، دون أي خطوات عملية لحماية الممرات الإنسانية. وبينما تتفاخر بعض الدول بأنها ترسل طائرات أو سفناً محمّلة بالمساعدات، تُنسف تلك المساعدات، وتُستهدف أماكن توزيعها، وكأن الغاية الوحيدة منها هي تحسين صورة المانح لا إنقاذ الجائع.
مأساة غزة لم تعد قصة صراع سياسي، ولا مجرد معاناة إنسانية موسمية. إنها شهادة دامغة على فشل النظام الدولي، وعلى تآكل الضمير العالمي، وعلى التحول التام لمبادئ القانون الإنساني إلى شعارات لا تُطبق. فحين يُقتل الناس وهم ينتظرون المساعدات، لا يعود هناك فرق بين الحرب والمجزرة، بين القصف والعقوبة الجماعية، بين الصمت والتواطؤ. غزة اليوم ليست فقط في حاجة إلى الغذاء، بل إلى حماية حقيقية، إلى إرادة دولية تُنهي هذا الجحيم المستمر، وإلى مساءلة عادلة لا تعترف بالقوة على أنها حق، بل تحاسبها حين تتحول إلى أداة للقتل المنهجي.