تأخر حركة حماس في التعاطي الجاد والفوري مع مساعي التهدئة، رغم فداحة الكلفة الإنسانية التي يدفعها سكان قطاع غزة، يفتح باباً واسعاً للنقد والتحليل. فالحرب المستمرة منذ ما يقرب من 21 شهراً لم تترك ركناً في غزة إلا وخلّفته بين ركام، ومع ذلك استغرقت الحركة وقتاً طويلاً في المشاورات الداخلية والمفاوضات غير المباشرة، ما ساهم في إطالة أمد الصراع وتفاقم المأساة الإنسانية، التي بلغت مستويات غير مسبوقة في تاريخ النزاعات الحديثة.
مرواغات سياسية على حساب المدنيين
ما كان يُنتظر من حماس، بصفتها الطرف الفاعل على الأرض، هو الاستجابة المباشرة لأي مبادرة جدية لوقف إطلاق النار، خاصة تلك التي تحمل في طياتها إشارات إيجابية من جانب المجتمع الدولي، بما في ذلك واشنطن، التي وإن لم تكن طرفاً نزيهاً في الصراع، إلا أنها تملك مفاتيح الضغط على إسرائيل. الإصرار على إدخال تعديلات “طفيفة” في صيغة الاتفاق، في وقت تنهار فيه البنية التحتية لغزة ويُدفن المدنيون تحت أنقاض منازلهم، قد يُفهم على أنه مراوغة سياسية أو محاولة لتسجيل نقاط تفاوضية، لكنها تتم على حساب الأرواح والكرامة.
الرد الإيجابي الأخير من حماس، الذي جاء بعد ضغط متواصل ووساطات مكثفة من قطر ومصر، يبدو أنه يحمل نوايا حقيقية للدخول في مسار تهدئة، لكنه يأتي متأخراً، وقد لا يُقابل بنفس الزخم أو القبول من الطرف الإسرائيلي. فنتنياهو، الذي يواجه ضغوطاً داخلية ومعادلات معقدة تتعلق بالمختطفين والضغط الشعبي والسياسي، لا يظهر استعداده للدخول في تهدئة طويلة الأمد دون مقابل واضح، وأبرز تلك المطالب هو نزع سلاح حماس، وهو شرط تعتبره الأخيرة خطاً أحمر لا يمكن التفاوض عليه.
اختلال موازين القوة
السؤال الجوهري الآن: هل تملك حماس فعلاً القدرة على إنجاح هذا المسار السياسي؟ أم أن الحركة دخلت إلى طاولة المفاوضات مُكرهة، تحت وطأة الكارثة، لا من منطلق رؤية استراتيجية واضحة؟ فالاتفاقات التي تُبرم تحت ضغط المعركة، وفي ظل ميزان قوة مختل، غالباً ما تكون هشة أو ناقصة، ما لم تدعمها إرادة داخلية صلبة واستعداد لتقديم تنازلات متبادلة.
المعضلة الأخرى تكمن في غياب الثقة المتبادلة. إسرائيل تشكك في أي التزام يصدر عن حماس، في حين ترى الحركة أن تل أبيب تستخدم المفاوضات كغطاء لإعادة التموضع أو كسب الوقت. وحتى مع تدخل واشنطن وإعلان الرئيس ترمب عن ما سماه “مقترحاً نهائياً”، فإن ضبابية المواقف الإسرائيلية قد تعرقل التقدّم، خاصة أن نتنياهو لم يعلّق بعد على تفاصيل الاتفاق أو على رد حماس.
ملفات معقدة
وفي حال استؤنفت المفاوضات في الأيام القادمة، فإن العقبات المتوقعة تتمثل في الآتي: ملف الرهائن، مستقبل سلاح المقاومة، آلية إعادة الإعمار، وضمانات عدم العودة إلى التصعيد بعد انتهاء التهدئة المؤقتة. وكلها ملفات ثقيلة ومعقدة، تحتاج إلى أكثر من مجرّد نوايا “إيجابية” لإنجاز اتفاق مستدام.
في النهاية، فإن التأخير في اتخاذ القرار، مهما كانت مبرراته، لا يعفي أي طرف من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية. الوقت في غزة يُقاس بالأرواح، وكل لحظة تأخير تعني ضحايا جدد، ودماراً إضافياً، وأملاً يتآكل في الخلاص. وعلى كل الأطراف، وفي مقدمتها حماس، أن تدرك أن المعركة السياسية لا تقل أهمية عن ساحة القتال، وأن الذكاء السياسي أحياناً يكون في التراجع التكتيكي الذي يحفظ الدماء، لا في الإصرار العنيد الذي لا يثمر إلا الركام.