رغم الواقع المأساوي الذي يشهده قطاع غزة واستمرار توقف المنشآت الصناعية فيه بشكل كامل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، سجّل الرقم القياسي لكميات الإنتاج الصناعي في فلسطين ارتفاعًا بنسبة 3.57% خلال شهر أيار 2025 مقارنة بالشهر السابق، وهو مؤشر اقتصادي يحمل في طياته دلالات مهمة، سواء من حيث التماسك النسبي للاقتصاد الفلسطيني في ظل الأزمات، أو من حيث التفاوت البنيوي بين الضفة الغربية وقطاع غزة من حيث القدرات الإنتاجية.
قدرة القطاعات الصناعية
الارتفاع في الرقم القياسي من 79.18 في نيسان إلى 82.01 في أيار يعكس قدرة القطاعات الصناعية، ولا سيما الصناعات التحويلية، على الحفاظ على وتيرة إنتاجية مستقرة بل ومتنامية، رغم استمرار غياب مساهمة غزة بالكامل، وهو ما يعكس مرونة نسبية في سلاسل الإنتاج والتوزيع في مناطق الضفة الغربية. هذه النتيجة ليست بالضرورة مؤشراً على تحسن اقتصادي شامل، لكنها تؤشر إلى مقاومة صناعية للتحديات الجيوسياسية والأمنية.
الصناعات التحويلية، التي تشكل ما يقارب 88% من إجمالي الأنشطة الصناعية، سجلت وحدها ارتفاعًا بنسبة 4.15%. ويُعزى ذلك إلى تحسن أداء عدة أنشطة فرعية لها وزن نسبي مؤثر، مثل صناعة الكيماويات، والغذاء، والدواء، والجلود، والتبغ، وهي صناعات ترتبط إما بالطلب المحلي الأساسي أو بالتصدير المحدود ضمن الإمكانيات المتاحة. ويبدو أن هذه الأنشطة عرفت نموًا مستندًا إلى ارتفاع الطلب أو إلى ديناميكية مرنة في التكيّف مع الظروف، سواء من حيث تأمين المواد الخام أو تعديل خطوط الإنتاج.
هشاشة بعض الجوانب في الاقتصاد
في المقابل، سجلت بعض الأنشطة انكماشًا، مثل صناعة الملابس والمنسوجات والطباعة، وهي قطاعات غالبًا ما تكون أكثر ارتباطًا بالطلب الترفيهي أو الموجه للتصدير الواسع، ما يعني أنها تتأثر بسرعة بأي هزة اقتصادية أو سياسية. هذا التراجع في بعض الأنشطة يعكس حدود التحسن ويؤشر إلى هشاشة بعض الجوانب في الاقتصاد الصناعي الفلسطيني.
ومن الملفت أيضًا تسجيل ارتفاع في أنشطة إمدادات المياه والصرف الصحي بنسبة 5.68%، وهي نسبة مرتفعة نسبيًا بالنظر إلى أهمية هذا القطاع في البنية التحتية اليومية، ما يشير إلى استمرار أو توسع في مشاريع الخدمات الأساسية في مناطق الضفة الغربية، سواء من قبل القطاع العام أو الخاص أو ضمن مشروعات المانحين. كما ارتفعت أنشطة الكهرباء والغاز بنسبة طفيفة (0.30%)، مما يدل على استقرار نسبي في الإمدادات الطاقوية رغم التحديات اللوجستية.
غياب غزة عن الإحصاء
في المقابل، سجّلت أنشطة التعدين واستغلال المحاجر انخفاضًا نسبته 3.74%، وهو قطاع يتأثر بسرعة بأي اختناقات في سلاسل التوريد أو انخفاض في نشاط البناء، وربما أيضًا نتيجة القيود الإسرائيلية المفروضة على التنقل والمواد الخام.
لكنّ البُعد الأكثر أهمية لهذا الارتفاع يتمثل في انعكاسه على مركزية الضفة الغربية في الاقتصاد الفلسطيني الصناعي، في ظل توقف غزة التام عن الإنتاج الصناعي للشهر الثامن على التوالي. فاستمرار غياب غزة عن الإحصاء بسبب العدوان لا يعني فقط خسائر فادحة في الناتج المحلي، بل أيضًا غياب العدالة الاقتصادية والتنموية، وتفاقم الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين شطري الوطن.
اقتصاد يعيش بنصف جسد
الارتفاع المُسجّل، إذن، يُخفي خلفه هشاشة بنيوية لا تزال قائمة، ويشير إلى خطر الاعتماد الأحادي على الضفة الغربية في ظل غياب إمكانات إعادة الإعمار أو التشغيل في قطاع غزة. ورغم أن بعض المؤشرات تبدو إيجابية، فإنها لا تعكس بأي حال تعافيًا اقتصاديًا شاملًا، بل قدرة محددة على المقاومة المؤقتة ضمن بيئة غير مستقرة، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
وبالتالي، فإن هذا الارتفاع في المؤشر الصناعي يحمل دلالتين أساسيتين: الأولى أن هناك قدرة مرنة في بعض القطاعات الصناعية على التكيف مع الظروف الطارئة، والثانية أن هذه القدرة مهددة بالانهيار إذا استمر العدوان على غزة وتعذر دمج القطاع مجددًا في الدورة الاقتصادية الكلية. فاقتصاد يعيش بنصف جسد، مهما حقق من مؤشرات إيجابية مؤقتة، سيبقى معرضًا للتآكل والانكشاف، ما لم يُعالج الخلل البنيوي ويُرفع الحصار وتُعاد الحياة الصناعية لغزة من جديد.