استيقظت مصر مجددًا على فاجعة مرورية دامية أودت بحياة 10 أشخاص وأصابت 10 آخرين، إثر تصادم حافلتين على الطريق الدائري الإقليمي. هذه الحادثة ليست الأولى خلال أيام، بل جاءت بعد كارثة مشابهة راح ضحيتها 19 فتاة في مقتبل العمر، ما دفع الرأي العام إلى إطلاق صرخات استغاثة، ومطالبات واسعة بمحاسبة المسؤولين عن هذا النزيف المستمر على طرق البلاد.
رئاسـة تتدخـل… ولكن بعد فوات الأوان
بيان صادر عن الرئاسة المصرية أكد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وجّه الحكومة بدراسة إمكانية إغلاق الطريق الدائري الإقليمي في المواقع التي تشهد أعمال صيانة ورفع كفاءة، إلى حين الانتهاء منها، على أن يتم توفير طرق بديلة آمنة حفاظًا على أرواح المواطنين. كما كلّف وزارة الداخلية باتخاذ إجراءات صارمة ضد المخالفين، وتشديد الرقابة على الطرق، خاصة فيما يتعلق بالسرعة والحمولة الزائدة.
إلا أن هذا التحرّك، الذي جاء بعد الحادث الثاني خلال أقل من أسبوع، اعتبره نواب ومراقبون تأخرًا غير مبرّر، لا يرقى إلى مستوى الكارثة التي حصدت أرواح 22 شخصًا خلال أيام معدودة، بينهم 19 فتاة تتراوح أعمارهن بين 14 و20 عامًا، كنّ في طريقهن للعمل في إحدى مزارع العنب.
البرلمان يتحرّك… وغضب شعبي يتصاعد
النائب البرلماني فريدي البياضي، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، كان من بين أول من تحركوا برلمانيًا عقب الحادث الجديد، بتقديم طلب إحاطة عاجل إلى كل من رئيس الحكومة ووزيري النقل والداخلية، منتقدًا ما وصفه بـ”التكرار المأساوي” للحوادث في نفس الموقع دون تحرّك حاسم من الدولة. وفي طلبه، استنكر البياضي حالة “التهاون الحكومي الصارخ”، وتساءل: “أين هو حق الحياة الذي ينص عليه الدستور؟ وهل أصبح الموت على الطرق قدرًا محتومًا للمصريين؟”.
البياضي أعاد التذكير بالمادة 59 من الدستور المصري، التي تنص على أن “الحياة الآمنة حق لكل إنسان”، لافتًا إلى أن الدولة لا تفي بهذا الالتزام الدستوري، في ظل تكرار الكوارث المرورية دون إجراءات وقائية فعّالة. كما كشف عن أرقام صادمة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حيث سُجلت 76,362 إصابة و5,260 وفاة نتيجة حوادث طرق خلال عام 2024 وحده، من بينهم 1,219 طفلًا دون سن الخامسة عشرة.
وزير النقل في مرمى الاتهامات… واستقالات غائبة
وسط هذه الأجواء المشحونة، تصاعدت الدعوات لإقالة وزير النقل، الفريق كامل الوزير، خاصة مع تكرار الحوادث على الطرق التي يُفترض أنها خضعت لتطوير شامل ضمن خطة الدولة لتحديث البنية التحتية. إلا أن الوزير، الذي يعتبره البعض من الدائرة الضيقة للرئيس السيسي، رفض الاستقالة، مصرّحًا أنه “لن يترك موقعه إلا عند الموت”، ما زاد من حدة الجدل حول المسؤولية السياسية عن هذه الكوارث.
النائب البياضي اعتبر أن الطريق الدائري الإقليمي تحوّل إلى “مذبحة مفتوحة”، مشددًا على أن غياب خطة تأمين الطرق، وغياب الرقابة على مركبات النقل الثقيل، وعدم وجود صيانة دورية فعّالة، كلّها عوامل تجعل من الحوادث المميتة نتيجة حتمية وليست استثناءً.
إنجازات تُتباهى بها… وواقع مرير
المفارقة أن الطريق الدائري الإقليمي يُعد من المشروعات التي لطالما تباهت بها الحكومة المصرية باعتباره أحد أبرز إنجازاتها في قطاع النقل. يمر الطريق عبر محافظات الشرقية والقليوبية والمنوفية والجيزة، ويُفترض أنه يمثل نقلة نوعية في ربط المحافظات وتخفيف الضغط عن القاهرة. كما سبق لوزير النقل أن أعلن، في تصريحات إعلامية حديثة، أن مصر أنفقت 2 تريليون جنيه على تطوير قطاع النقل، في إطار رؤية الدولة للتنمية المستدامة 2030.
غير أن تكرار الحوادث المميتة على هذا الطريق يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى سلامة تلك المشاريع، وجدوى الإنفاق الضخم إذا لم يُترجم إلى بنية تحتية آمنة تضمن حق المواطن في التنقل دون أن يواجه خطر الموت في كل رحلة.
إلى أين تمضي الحكومة؟
في ظل تصاعد الغضب الشعبي والبرلماني، تتجه الأنظار إلى الحكومة المصرية بانتظار خطوات فعلية تتجاوز البيانات الرسمية. النائب البياضي ختم بيانه بعبارات شديدة اللهجة، قائلاً: “نحن لا نبالغ حين نقول: الطريق الإقليمي تحوّل إلى مذبحة مفتوحة. والسكوت خيانة لواجبنا الدستوري والإنساني. كفانا دمًا! كفانا تجاهلًا! كفانا انتهاكًا لكرامة الإنسان المصري على قارعة الطريق!”.
ما إذا كانت هذه المطالبات ستقود إلى قرارات حاسمة، أم ستُضاف إلى أرشيف ردود الفعل المؤقتة، يبقى سؤالًا مفتوحًا… لكن المؤكد أن أرواحًا كثيرة دُفعت ثمنًا لطريق لم يُصمَّم، أو لم يُراقب، أو لم يُحترم كما يجب.