تكتسب تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، التي نُقلت عبر صحيفة وول ستريت جورنال وإذاعة الجيش الإسرائيلي، أهمية استثنائية في هذا التوقيت المفصلي من الحرب على قطاع غزة. فهي لا تعكس فقط تقديراً عسكرياً لتطورات الميدان، بل تعبّر في عمقها عن تحوّل جوهري في موقف المؤسسة العسكرية تجاه أهداف الحرب، وجدوى استمرارها، والخيارات السياسية المطروحة في المرحلة المقبلة.
تتجلى أولى الدلالات في هذا التصريح غير المعتاد من رئيس الأركان في كونه رفضاً ضمنياً للاستمرار في الخيار العسكري دون أفق سياسي واضح. زامير، رغم موقعه العسكري، اختار أن يُعبّر عن موقفه بصيغة سياسية مغلّفة بتقدير أمني: استمرار القتال في غزة، في ظل العمليات المتصاعدة للمقاومة الفلسطينية، لن يُقرب إسرائيل من أهدافها المعلنة، بل سيزيد من تعقيد المشهد، ويضاعف الخطر على المحتجزين الإسرائيليين والجنود على السواء. وهذا التحذير من “ثمن استراتيجي باهظ” يتجاوز مجرد حرص تكتيكي، ليضع سقفاً عملياً لاستراتيجية نتنياهو التي تسعى للاستمرار في الحرب دون ضوابط زمنية أو سياسية.
دلالات تصريحات زامير
ثانيًا، تُعدّ تصريحات زامير دفعاً علنياً باتجاه القبول بصفقة تبادل أسرى، وإنهاء الحرب وفق معادلة سياسية. فحين يقول رئيس الأركان إن الجيش لا يستطيع تحقيق هدفي الحرب (القضاء على حماس واستعادة المحتجزين) في آنٍ واحد، فإنه يُسقط عن القيادة السياسية مبرر الاستمرار في الحرب بذريعة التوازي بين المسارين. هذه العبارة تحمل في طياتها رسالة واضحة: على الحكومة أن تختار بين الاستنزاف العسكري أو الحل السياسي. ويبدو أن الخيار العسكري بات في نظر الجيش طريقاً مسدوداً، إن لم يكن انتحاراً استراتيجياً على المدى الطويل.
ثالثًا، يبرز في مضمون التصريحات مؤشر على تزايد التوتر والخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة السياسية، وخصوصاً مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فالجيش، الذي طالما سعى لتجنّب التورط في إدارة قطاع غزة عسكرياً، يدرك أن استمرار الحرب سيقوده في النهاية إلى خيار الحكم العسكري، وهو خيار مكلف بشرياً واقتصادياً، ويُفقد إسرائيل مكاسب استراتيجية دولية، ويدخلها في مواجهة طويلة الأمد مع بيئة عدائية مُدمّرة. تصريح زامير جاء إذن كإجراء وقائي – وربما تبريري – في حال قررت الحكومة تجاهل هذه التحذيرات والمضي نحو تصعيد قد يجرّ تداعيات سياسية وأمنية شديدة الخطورة.
عرقلة التوصل اتفاق الهدنة
في السياق ذاته، لا يمكن فصل هذه التصريحات عن السياق السياسي الأوسع: زيارة نتنياهو إلى واشنطن ولقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ظل تزايد الحديث عن قرب الإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار. الجيش الإسرائيلي، عبر تصريحات زامير، يسعى على ما يبدو للتموضع في الصف الداعم لأي اتفاق محتمل، وربما أيضاً لإلقاء المسؤولية على القيادة السياسية في حال تم عرقلة التوصل إلى هذا الاتفاق بسبب حسابات داخلية أو تحالفات يمينية متطرفة.
كما أن إشارة الخبير مهند مصطفى إلى أن زامير “عبّر عن موقفه السياسي بصيغة تقدير عسكري” تُسلّط الضوء على واقع جديد داخل إسرائيل: المؤسسة العسكرية لم تعد تكتفي بتنفيذ السياسات، بل تسعى للمشاركة في صياغتها، خصوصاً عندما ترى أن القيادة السياسية تنحرف نحو قرارات تمسّ الاستقرار الاستراتيجي للدولة.
تقويض الثقة بالجيش
باختصار، يمكن القول إن تصريحات زامير تمثل نقطة تحوّل خطيرة في العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل، وتعكس إدراكاً عميقاً بأن استمرار الحرب دون أفق سياسي لن يؤدي سوى إلى زيادة عدد القتلى من الجنود، وتفاقم مأزق المحتجزين، وتقويض الثقة بالجيش نفسه داخلياً. كما أنها تمنح غطاءً مهنياً و”قوميًا” للذهاب نحو خيار الاتفاق، وتمنح حكومة نتنياهو – إن رغبت – مخرجاً مشرفاً من حرب لم تحقق أهدافها، وتُهدد بمزيد من الخسائر والانهيارات.
في المحصلة، زامير لا يحذّر من استمرار الحرب فحسب، بل يُمهّد لقبول غير معلن بأن أهدافها قد سقطت، وأن التفاوض – لا القتال – هو الطريق المتبقي، وهو بذلك يرسم الخط الفاصل بين الممكن العسكري والمطلوب السياسي، حتى لو لم يكن ذلك على هوى القيادة العليا.