تحوّلت بلدة سنجل شمال رام الله إلى نموذج مكثّف لسياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى لخنق الوجود الفلسطيني، عبر العزل الجغرافي، والتضييق الاقتصادي، والاستهداف البشري المباشر. هذا الحصار الجديد المفروض على البلدة منذ أواخر 2023 ليس مجرد قيود أمنية، بل استراتيجية استيطانية ممنهجة لإخضاع سكانها وترهيبهم، وفرض وقائع على الأرض تمهيدًا للضم أو التهجير التدريجي.
البلدة التي حوصرت من كل الجهات
لطالما شكّلت سنجل بلدة فلسطينية نابضة بالحياة، تقع على طريق استراتيجي يربط رام الله بنابلس، وتحيط بها أراضٍ زراعية خصبة تتجاوز مساحتها 16 ألف دونم. لكنّ البلدة باتت اليوم محاصرة فعليًا:
من الشمال: حاجز عسكري وبوابة حديدية مغلقة.
من الشرق: سياج شائك بطول 1.5 كيلومتر وارتفاع 6 أمتار صادر 30 دونمًا من أراضيها.
من الجنوب: هجوم استيطاني على جبل الباطن وخربة التل، تحت حماية الجيش.
من الداخل: أكثر من 47 بيتًا باتت خارج محيط البلدة، خلف السياج.
هذا التقطيع الجغرافي حول سنجل إلى غيتو فلسطيني مغلق، لا يمكن لسكانه الحركة أو الزراعة أو التجارة أو التعليم أو حتى العلاج إلا بإذلال ومعاناة يومية.
الحياة اليومية بين البوابة والجدار
البلدة التي اعتادت أن تكون نافذة للريف الفلسطيني، باتت مسجونة. حياتها اليومية تعطّلت بالكامل:
الكراجات أغلقت، التجارة تراجعت، الأراضي الزراعية نُهبت، والزيتون لم يُقطف منذ موسمين.
المرضى يعانون للوصول إلى المستشفيات، وطلاب الجامعات والمدارس مهدد مستقبلهم.
نزوح داخلي متزايد من البيوت الملاصقة للجدار، خوفًا من المستوطنين.
الاحتلال يمنع حتى فنجان قهوة بسيط أمام البيت، كما في حالة الحاجة عديلة عصفور التي اصطدمت صباحاتها بسياج فولاذي بدل الطبيعة.
الحصار كاستراتيجية
ليست الإجراءات ضد سنجل مجرد أفعال عسكرية، بل جزء من خطة لفرض عزل ممنهج للبلدات الفلسطينية الواقعة على أطراف الضفة الغربية، بهدف:
قطع التواصل الجغرافي الفلسطيني، وتحويل البلدات إلى جيوب محاصرة يسهل السيطرة عليها.
توسيع المستوطنات المحيطة، حيث تحاصر سنجل خمس مستعمرات وعدة بؤر عشوائية.
إرهاب الأهالي ودفعهم للرحيل الطوعي تحت ضغط اقتصادي ونفسي واجتماعي.
الاحتلال يدرك أن إخضاع الريف الفلسطيني عبر الحصار والاقتلاع الزراعي سيُضعف صمود السكان ويعجّل بتمدد المستوطنات دون مقاومة فعالة.
شهداء سنجل.. والوجع المستمر
بينما تخنق الأسلاك حياتهم، يستمر أهالي سنجل في الصمود. البلدة قدّمت مؤخرًا شهيدين:
وائل غفري (48 عامًا)، استُشهد دفاعًا عن ممتلكات البلدة من حرق المستوطنين.
الطفل يوسف فقهاء (14 عامًا)، أُعدم ميدانيًا عند بوابة البلدة، وجثمانه لا يزال محتجزًا.
هاتان الحادثتان ليستا استثناء، بل جزء من واقع مستمر تنزف فيه سنجل ببطء، وسط تجاهل دولي شبه تام.
تاريخ المقاومة والحصار
منذ عقود، وسنجل تُعرف بمواقفها الوطنية، وقد شارك أبناؤها في كل مراحل النضال الفلسطيني. لكن الاحتلال اليوم يعيد رسم الجغرافيا والديموغرافيا في هذه البلدة المقاومة، ليجعلها عنوانًا لصراع مفتوح بين من يزرعون الزيتون ومن يقتلعونه.
لم تعد سنجل هي سنجل، كما تقول إيمان فقهاء. البلدة المحاطة بالسياج، المحروسة بالجنود، المحاصرة بالبؤر الاستيطانية، تحوّلت إلى معسكر احتجاز جماعي لـ7000 نسمة. لكنها أيضًا، حتى الآن، لم تفقد روحها. فما زال الأهالي يرفعون علم فلسطين مكان خيام المستعمرين، ويُصرّون على البقاء.
سنجل ليست فقط بلدة محاصرة، إنها مرآة صغيرة لوطن محاصر بكامله.