الارتفاع المتواصل في أعداد الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، والذي بلغ مع مطلع يوليو/تموز الجاري 10 آلاف و800 أسير، يعكس صورة مكثفة للواقع القمعي الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، لا سيما في ظل الحرب المفتوحة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذا الرقم، الذي يعد الأعلى منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، لا يحمل فقط دلالة إحصائية، بل يعكس تحولات جوهرية في أدوات السيطرة الإسرائيلية، تتقاطع فيها البنية الأمنية مع البعد العقابي الجماعي والسياسي.
إضعاف البنية الاجتماعية الفلسطينية
من اللافت في المعطى الجديد أن هذا العدد لا يشمل المحتجزين في المعسكرات العسكرية الإسرائيلية من سكان غزة، أي أن الواقع الميداني أكثر قتامة مما توثقه الأرقام الرسمية. ما يضعنا أمام سياسة احتجاز واسعة النطاق، تفتقر إلى الشفافية، وتخالف – بصورة ممنهجة – المعايير الدولية المتعلقة بحرية الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة. في هذا السياق، تصبح السجون الإسرائيلية امتداداً للمعركة، وليست فقط أداة ضبط أو “ردع”، بل ساحة لاستمرار العدوان بأدوات مختلفة: قمعية، نفسية، وجسدية.
وجود ما يقرب من 450 طفلاً و50 سيدة ضمن قائمة الأسرى، يُسلّط الضوء على عمق الاستهداف الذي يتجاوز المقاومين أو المطلوبين أمنياً، ليشمل النسيج المدني والاجتماعي الأوسع. أطفال يُسلب منهم حق الطفولة، ونساء يُزجّ بهن في المعتقلات، ليس كاستثناء، بل ضمن سياسة مدروسة لإضعاف البنية الاجتماعية الفلسطينية وتفتيت أسرها وعزلها. أما الاعتقال الإداري – الذي يشمل 3629 شخصاً دون تهمة معلنة – فيعد دليلاً إضافياً على تغوّل السلطة الأمنية الإسرائيلية، التي تحتجز الفلسطينيين بناء على تقديرات استخباراتية دون الحاجة إلى أدلة أو محاكمات.
سياسة الاعتقال والتعذيب
ومنذ بدء الهجوم البري على غزة أواخر أكتوبر، تحولت الاعتقالات الجماعية إلى ركن أساسي في السياسة الإسرائيلية، حيث اعتُقل آلاف المدنيين، بمن فيهم طواقم طبية، وعمال إغاثة، وحتى أفراد من الدفاع المدني. وقد أظهرت شهادات من أُفرج عنهم لاحقاً أنهم تعرضوا للتعذيب والتجويع، واحتُجزوا في ظروف بالغة السوء، تعكس استخفافاً كاملاً بالحماية القانونية المفترضة للأسرى، وخاصة أولئك المدنيين الذين يُحتجزون خارج أي إطار قضائي واضح.
في المقابل، يُقارن هذا السلوك الإسرائيلي بما نقلته شهادات عن المحتجزين الإسرائيليين الذين أطلقت حماس سراحهم في مراحل مختلفة، والذين بدوا في حالة جسدية مقبولة، بل إن بعضهم أشاد بسلوك آسريهم، ما يعكس تبايناً صارخاً في معاملة الأسرى بين الطرفين، ويدحض الروايات الإسرائيلية التي تسعى لإبراز التفوق الأخلاقي في تعاملها مع الفلسطينيين.
من زاوية أوسع، لا يمكن فصل هذا التصعيد في سياسة الاعتقال والتعذيب عن المشهد الأكبر: حرب إبادة شاملة تُشن على غزة منذ أشهر، وقد خلفت أكثر من 194 ألف قتيل وجريح، إلى جانب عشرات الآلاف من المفقودين ومئات الآلاف من النازحين، وسط دمار واسع ومجاعة مميتة. في هذا السياق، تتحول السجون إلى مرآة أخرى تعكس الطبيعة الاستثنائية للمرحلة، حيث يصبح الفلسطيني، سواء كان مقاوماً أو مدنياً أو طفلاً، هدفاً دائماً لآلة القمع الإسرائيلية.
جرائم تحت مظلة الحصانة السياسية
ولعل أبرز ما يكشفه هذا المشهد هو مفارقة الصمت الدولي، وغياب الضغط الفعلي على إسرائيل للالتزام بالقانون الدولي الإنساني، رغم صدور أوامر واضحة من محكمة العدل الدولية بوقف العدوان. فاستمرار الاعتقال الجماعي، مع ممارسات التعذيب والإهمال الطبي، يشكّل جريمة ممنهجة تقع في قلب السياسة الإسرائيلية الحالية، وتتم تحت مظلة الحصانة السياسية والدبلوماسية التي يوفّرها الدعم الأميركي غير المشروط.
ارتفاع عدد الأسرى لا يمكن قراءته كرقم فقط، بل هو تعبير عن منطق الاحتلال نفسه، الذي لا يرى في الفلسطيني سوى مشروع تهديد يجب تقييده، وإخضاعه، وربما تحطيمه جسدياً ونفسياً. السجون هنا ليست فقط مكاناً للاعتقال، بل أداة استراتيجية في هندسة القهر الجماعي، تستهدف الذاكرة، والهوية، والصمود، وتعيد تذكير الفلسطيني كل يوم بأن الاحتلال لا يكتفي باحتلال الأرض، بل يسعى إلى احتلال الإنسان ذاته.